مصير ألماني للمسرح السوري؟ ديناميكيات لقاء فني

كتابة سيمون دوبوا، ترجمة أمجد عطري

مصير ألماني للمسرح السوري؟ ديناميكيات لقاء فني

كتابة سيمون دوبوا، ترجمة أمجد عطري

في تشرين الأوّل / أكتوبر 2016، شاركت “اتّجاهات – ثقافة مستقلّة”: وهي منظّمةٌ ثقافيّةٌ سوريّةٌ شابّةٌ، تعمل من لبنان، وتدعم الإنتاج الفنيّ السوريّ في المنفى1Dubois, Simon, « A Field in Exile: The Syrian Theatre Scene in Movement » (حقل في المنفى: مشهد المسرح السوري في تحرك), dans Richard Jacquemond et Felix Lang (dir.), Culture and crisis in the Arab world: art, practice and production in spaces of conflict (الثقافة والأزمات في العالم العربي: الفن وممارسته وإنتاجه في فضاءات الصراع), I.B. Tauris, London, 2019, p. 171.، في تنظيم “مساحات الأمل” في برلين. هذا الحدث عبارة عن منصّة نقاشٍ ولقاءٍ لأكثر من خمسين فنّاناً سوريّاً يعيشون في ألمانيا. كان الأوّل من نوعه في التجمّعات المنظّمة في أوروبا للمهنيّين السوريّين. ونظّم معهد جوته في برلين (من 20 تشرين الأول / أكتوبر إلى 5 تشرين الثاني / نوفمبر 2016) معهد غوته دمشق في المنفى. حيث يُحْيي الفرع الدمشقيّ مؤقّتاً ويقدّم برنامجاً فنيّاً سوريّاً يتناول إشكاليّة منفى الفنّانين في ألمانيا؛ أمّا معهد “ساندانس” “Sundance”، فلتنفيذ برنامجه المتعلّق بالكتابة المسرحيّة العربيّة الجديدة نظّم في عام 2017 ورشة عملٍ للكتابة مباشرةً في برلين، المكان العمليّ أكثر من غيره لجمع مختلف المؤلّفين2مقابلة مع جمانة الياسري، منسّقة المشروع، أيلول / سبتمبر 2016، باريس.

إقامة هذه الفعاليّات الفنيّة في ألمانيا تعكس المنزلة المتنامية التي احتلّتها في الفنّ السوريّ المعاصر منذ عام 2014؛ أي: منذ بداية إقامة السوريّين في العواصم الأوروبيّة. وهذه الحركة هي من توابع نزوح السوريّين الجماعيّ منذ نهاية عام 2012 نحو البلدان المجاورة لسوريا بعد تسيّب الأوضاع في بلدهم، وظهور منطق حربٍ حقيقيّ. وليست برلين المدينة الأوروبيّة الوحيدة التي تجتذب الفنّانين السوريّين الشباب، إلّا أنّها طليعيّة (بالمقارنة مع عواصم أُخرى) من حيث الاعتراف بصفتهم الفنيّة. اسُتخلصت هذه المعاينة خلال مسحٍ ميدانيٍّ أجري في برلين في ربيع عام 2016. 

تتباين هذه الملحوظة مع المنزلة التي كانت تحتلّها ألمانيا في ثقافة الممارسين المسرحيّين الشباب المهنيّة في قلب هذا الاستطلاع؛ حيث كانت لديهم بالتأكيد دراية جيّدة بأسماء المسرحيّين الألمانيّين المعاصرين الكبار، مثل: بيرتولت بريخت، وبيتر فايس، وإروين بيسكاتور، وهاينر مولر، وتوماس أوستر ماير؛ لكنْ قلّة من كانت لهم في سوريا صلات بألمانيا، أو ما كانوا يتقنون اللّغة. فخلال دراستهم، يفضّل طلاب المعهد العالي للفنون المسرحيّة فرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والمملكة المتحدة3المعهد العالي للفنون المسرحية، مقره في دمشق، وهو المعهد الأكاديمي الوحيد للمسرح في سوريا، ويتمتع بشرعية كبيرة في عالم الفن السوري. تأسس في العام 1977 على يد آباء المسرح السوري الحديث.. ومع ذلك، فإنّ التشبيك الثقافيّ الألمانيّ في الخارج موجودٌ في دمشق (وبيروت) على نحوٍ خاصّ مع معهد جوته. فمنذ نهاية الحرب العالميّة الثانية عملت ألمانيا من خلال دبلوماسيّتها الثقافيّة على استعادة صورة الأمّة التي زوّدت الثقافة العالميّة بالفنّانين والمفكّرين. وبينما كانت مؤسّساتها في الخارج موجّهة نحو نشر اللّغة، أصبح الترويج للثقافة الألمانيّة هو الهدف الأساسيّ في سبعينيّات القرن الماضي4Paschalidis, Gregory, « Cultural outreach: overcoming the past? » (التواصل الثقافي: التغلب على الماضي؟), in Colvin, Sarah (dir.), The Routledge Handbook of German Politics & Culture, New York : Routledge, 2015, p. 463.. ومع نفي الفنّانين السوريّين، وإقامتهم في لبنان في عام 2013، لعبت الجهات الثقافيّة الألمانيّة الفاعلة -لا سيّما مؤسّسة هاينريش بل، التي تعدّ جزءاً من شبكة من المؤسّسات المرتبطة بالأحزاب السياسيّة الألمانيّة الرئيسة5Dakowska, Dorota, « Au nom de l’Europe. Les fondations politiques allemandes face à l’intégration européenne » (باسم أوروبا. المؤسسات السياسية الألمانية مقابل الاندماج الأوروبي), Revue d’Allemagne et des pays de langue allemande, no 47, 2015, [عبر الإنترنت] :http://journals.openedition.org/allemagne/453. – دوراً مهمّاً في دعم الإبداعات السوريّة ونشرها. أيضاً تؤمّن هذه المؤسّسات الألمانيّة في الخارج معابرَ إلى ألمانيا من خلال أنظمة المنح الدراسيّة، والإقامات الفنيّة التي تتيح للفنّانين السوريّين الوصول إلى أوروبا، والإقامة فيها.

لكنّ هذا الحضور الألمانيّ إلى جوار الفنّانين في المنفى لا يكفي لفهم تلك الأهميّة المتزايدة، بالنسبة إلى المشهد السوري، للجمهوريّة الفيدراليّة وعاصمتها. ومن خلال إجراء مقابلاتٍ مع فنّانين استقرّوا حديثاً في برلين، تمكنّا من تحديد أنّ هذا التنقّل يعيشه هؤلاء الممثّلون ويعدّونه رهاناً فنيّاً بحدّ ذاته، هو بمنزلة عنصرٍ من عناصر لعبةٍ فنيّةٍ6Lahire, Bernard, et Géraldine Bois. La condition littéraire : la double vie des écrivains. (الحالة الأدبية: حياة الكتّاب المزدوجة) Paris : La Découverte, 2006, p. 73. سوريّةٍ تحديداً تعاد صياغتها في المنفى7Dubois, Simon, « Négocier son identité artistique dans l’exil. Les recompositions d’un paysage créatif syrien à Berlin » (لتفاوض على الهوية الفنية في المنفى. تكوين مشهد إبداعي سوري في برلين), Migrations Société, vol. N° 174, no 4, décembre 2018, p. 45-57.. وبناءً على ذلك فإنّ دراسة الإقامة الألمانيّة، بوصفها خياراً يتمّ في مسارٍ فنيٍّ، تتيح لنا إكمال منهجنا. في الواقع، الفاعلون في الثقافة (والسوريّون على نطاقٍ أوسع8Dahdah, Assaf et Nicolas Puig (éd.), Exils syriens : parcours et ancrages (Liban, Turquie, Europe) (منافٍ سوريّة: رحلات ومراسٍ (لبنان، تركيا، أوروبا)), Lyon : Le passager clandestin, 2018, p. 7.) ليسوا في نهجٍ سلبيٍّ في منفاهم. إنّهم يتبعون استراتيجيّاتٍ واعيةً، وغير واعيةٍ في إيجاد فرصٍ في هجرتهم تلي القرارات بخصوص الأماكن المقصودة، التي تُتّخذ مع مراعاة عدّة عوامل. السياق الفنيّ للإقامة في ألمانيا هو أحد العوامل التي تؤثّر على المسارات.

في الواقع، تحوّلاتٌ هيكليّةٌ، وابتكاراتٌ مسرحيّةٌ خاصّةٌ بالفضاء الفنيّ الألماني، حملت للفنّان في المنفى قيمةً جديدةً، ومكاناً في قلب الإبداعات المعاصرة؛ حيث يُظهر التاريخ الثقافيّ الحديث لألمانيا تلييناً في البيئة الفنيّة التي كانت حتّى وقتٍ قريبٍ منغلقةً جدّاً على مسائل الوصول إلى الشرعيّة الفنيّة لسكّانها المهاجرين والمنحدرين من أصولٍ مهاجرة. وقد اتّخذت عمليّة الانفتاح والشمول هذه شكل السياسات الثقافيّة على المستوى الفيدراليّ، ومستوى الولايات، وتسبّبت في ظهور تيّاراتٍ مسرحيّةٍ جديدةٍ حيث تصبح الغَيريّة محرّكاً للإبداع والتفكير. وفي هذا السياق الإبداعيّ الحديث، أتاح وصول الفنّانين السوريّين تطوير مشاريع فنيّة أصليّة تُثري المشهد الألمانيّ، وتفتح آفاقاً مهنيّة لهؤلاء الفنّانين في الوقت نفسه.

ومن أجل استكشاف هذه الفرضيّة، يعود الكلام بالدرجة الأولى إلى التحوّلات الأخيرة التي مرّ بها واقع المسرح الألماني. ثمّ يجري تناول هذه التأثيرات على نحوٍ ملموسٍ في ظهور مسرح مكسيم غوركي في برلين بمنزلة فضاءٍ يحمل مفهوماً فنيّاً جديداً. وأخيراً، يتيح وصول الفنّان أيهم آغا إلى هذه المؤسّسة ملاحظة انتشار نماذج للتعاون الفنيّ من أجل الفنّانين السوريّين. نحن لا نحاول فهم الهجرة الفنيّة السوريّة هنا على أنّها نتيجة لطلب سوق العمل في ألمانيا، بلْ على أنّها مجموع للديناميكيّات المهنيّة الخاصّة بالوسطين الفنيَّين.

إعادة وضع الغيريّة في قلب الإبداع المسرحيّ الألمانيّ

رفضت ألمانيا لمدّةٍ طويلةٍ الاعتراف بوضعها على أنّها دولة هجرة، بينما لجأت على نحوٍ مكثّفٍ بين الخمسينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي إلى ما يسمّى “Gastarbeiter” (العامل الضيف9Sharifi, Azadeh, « Theatre and Migration Documentation, Influences and Perspectives in European Theatre », in Brauneck, Manfred et ITI Germany (dir.), Independent Theatre in Contemporary Europe: Structures – Aesthetics – Cultural Policy, Bielefeld : Transcript Verlag, 2017, p. 335-336.). ترميز حقيقيّ للعامل المهاجر، حيث يُنظر إليه في المنطق النفعيّ لعاملٍ صناعيٍّ مؤقّتٍ، ويستفيد من مواطَنةٍ جزئيّة 10Rea, Andrea, et Maryse Tripier, Sociologie de l’immigration (علم اجتماع الهجرة), La Découverte, 2008, p. 33.. وبعد تشديد قوانين الهجرة في التسعينيّات11 كان طلب التجنس، على سبيل المثال، يوجب التخلي عن الجنسية الأولى، وهو وضع إشكالي بالنسبة للأتراك الذين كانوا يفقدون بعد ذلك جميع حقوق الملكية في تركيا. هذا التدبير استبعدهم فعلياً من المواطَنة الألمانية في هذا الوقت.، شهدت الألفيّة الجديدة تحوّلاً في منهج مسائل الهجرة؛ فقد خُفّفت شروط الحصول على الجنسيّة الألمانيّة، وجرى تضمين حقّ الأرض منذ عام 199912 Rea, Andrea, op.cit., 2008, p. 90.. وفي سياق تزايد عدد السكّان من أصولٍ أجنبيّة، صمّمت الحكومة الفيدراليّة خطّة اندماجٍ في عام 2006 تضمّنت القطاع الثقافيّ بوصفه أحد صنّاع هذا الاندماج. تستند هذه السياسة الجديدة إلى ملاحظة أنّ المهاجرين والمنحدرين من أصولٍ مهاجرةٍ مستبعدون إلى حدٍّ كبيرٍ من الحياة الثقافيّة، سواء بوصفهم فاعلين أم جماهير. فالمسارح والمتاحف يُنظر إليها على أنّها، على نحوٍ خاص؛ لا يمكن الوصول إليها.

منذ الستينيّات من القرن الماضي بدأ الفنّانون المهاجرون بالإنتاج، لكنْ حتّى وقتٍ قريبٍ لم يتمكّنوا من تحقيق وصولٍ مستدامٍ إلى المسارح البلديّة والوطنيّة13 Sharafi, Azadeh, op.cit., 2017, p337-339.. كانت بعض التجارب نتيجة مبادرات شخصيّة، وقليل منها ما استمرّ. وربّما من أشهرها: مسرح “أن دير رور” “an der Ruhr” في مدينة مولهايم (الذي ما يزال يتابع نشاطاته)، أسّساه في عام 1980، المخرج الإيطاليّ روبرتو شولي، والكاتب المسرحيّ هيلموت شيفر، ويهدف المسرح إلى أن يكون فضاءً بلا ارتباطاتٍ وطنية14Tinius, Jonas, « Authenticity and Otherness: Reflecting Statelessness in German Postmigrant Theatre », Critical Stages/Scènes critiques, no 14, 2016, [عبر الإنترنت]: http://www.critical-stages.org/14/authenticity-and-otherness-reflecting-statelessness-in-german-postmigrant-theatre/.. ويستقبل فنّانين منبوذين مثل شركة “روما تياترو براليبي”، الفارّين من يوغوسلافيا. كما جرت تجارب أُخرى في برلين: من عام 1979 إلى عام 1984، أنشأ المسرح البلديّ الفرقة التركيّة. وقد شهد انفتاح خشبات المسرح الألمانيّة على الفنّانين المهاجرين والمنحدرين من المهجر منعطفاً في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، فقد انعكس وصول أعدادٍ كبيرةٍ من اللاجئين على المسارح الناطقة بالألمانيّة (كذلك في سويسرا والنمسا). وفي أيلول / سبتمبر من عام 2015 أُحصي نحو ستّين مسرحاً يستضيف مبادرات موجّهة للّاجئين (سواء كانت تجارب إخراج، أم استضافة فنّانين لاجئين، أو ورش عملٍ في الكتابة، أو علاجاً عبر المسرح، أو إقامةً في حالات الطوارئ15الإحصاء الذي أُجريَ في أيلول / سبتمبر من عام 2015، من قبل مجلة النقد المسرحي “nachtkritik.de“، متاح على الرابط التالي [جرى الدخول في 18 شباط / فبراير 2019]:https://nachtkritik.de/index.php?option=com_content&view=article&id=11497&catid=1513&Itemid=85.). لكنّ تقديم المنفيّ واللاجئ على الخشبة أصبح أيضاً رهاناً للمسرح الألماني.

كتبت الكاتبة المسرحيّة النمساويّة الحائزة جائزة نوبل، ألفريدي يلينك، مسرحيّة “Die Schutzbefohlenen” (المحميّون)16المسرحية متاحة مجاناً على موقع المؤلف على الرابط [جرى الدخول في 30 تموز / يوليو 2019]: https://www.elfriedejelinek.com/fschutzbefohlene.htm في عام 2013، التي تعتمد على مسرحيّة إسخيلوس باستخدام سياق وصول اللاجئين إلى النمسا في عام 201217Wilmer, Stephen, Performing statelessness in Europe, Cham : Palgrave Macmillan, 2018, p. 30-40.. وإذا كانت المأساة حاضرةً في الخلفيّة بمساعدة التلميحات والاقتباسات، فإنّ هذه المسرحيّة الحديثة تتناول سياسات الهجرة النمساويّة، ومخيّمات اللاجئين؛ حيث تصف المؤلّفة محنة اللاجئين الأفغان والباكستانيّين المحتجزين في معسكر خارج فيينا، وفي عام 2014، عُرضت المسرحيّة في أكثر من عشرة مسارح رئيسة في ألمانيا، وسويسرا، والنمسا. وبإخراج نيكولاس ستيمان18مخرج ألماني، من مواليد عام 1968. المسرحيّة في مسرح ثاليا في هامبورغ، شارك في العرض ممثّلون محترفون ولاجئون من لامبيدوزا، يحتمون في كنيسةٍ في منطقة سانت باولي. دُعيت المسرحيّة إلى مسرح “Theatertreffen” في أيار/ مايو 2015، وهو مهرجانٌ مرموقٌ يقدّم أفضل عشر مسرحيّات ناطقة بالألمانيّة ويكافئها (من ألمانيا، والنمسا، وسويسرا)، منذ عام 1960.

يقدّم مسرح “آن در رور”، في مدينة مولهايم الألمانيّة، مشروعاً محليّاً مع لاجئين من أصولٍ مختلفةٍ (بينهم سوريّون) يطرح انعكاساً أصليّاً على مسرحٍ يوصف بأنّه ما بعد وطنيّ، وغير وثائقي19 Tinius, Jonas, op.cit., 2016,p. 8- 10.. هذا المشروع المسمّى « Ruhrorter » (الروري، أو ساكن الرور) يختلف عن مسرح المنفى؛ فهو يسعى  إلى تحرير نفسه من الجانب الوثائقيّ، أو تقديم شدائد اللجوء. حيث يجري تشجيع المشاركين على عدم لعب دورهم الشخصيّ، وعدم رواية قصصهم، والهدف هو تعلّم كيفيّة الانفكاك من الأدوار التي يُبطّنها هؤلاء الممثلون المهاجرون خلال توطينهم في ألمانيا. المبدأ هو ألّا يعدّ الآخر شخصاً على هوامش المجتمع لتأكيد صفته مكوِّناً أساسيّاً لهويّة هذا المجتمع. فالتنوّع يعدّ هويّةً قابلةً للتغيير، يسمح بالترسيخ المحليّ ضدّ الخطابات القوميّة. ولا يجوز تمييز اللاجئ عن غيره من المواطنين، أو تقييد هويّته بوضعه القانونيّ. يجمع مفهوم المسرح ما بعد القوميّ إبداعاتٍ تُعَدُّ فضاءاتٍ عابرةً للحدود حيث يتغلّب المعيار الجماليّ على المفاهيم العرقيّة. وهو في الوقت نفسه، يقدّم أدواتٍ انعكاسيّةً لتفكيك الأدوار التي ينسبها الجمهور، ويُبطّنها المهاجرون. بذلك، فالمقصود هو تقديم التجربة المنفاويّة ليس من خلال إبراز الاختلاف، بل من خلال إبراز ما هو مشترك، بإعادة وصف الغيريّة كمعطى اجتماعيٍّ عام.

فتح باب الوصول إلى الخشبات: الحالة البرلينيّة

يقرّ قانون جمهوريّة ألمانيا الاتّحاديّة الأساسيّ (المكافئ للدستور) بالسيادة الثقافيّة للولايات مقابل السياسات الثقافيّة المركزيّة تاريخيّاً للأنظمة الاستبداديّة 20Van der Will, Wilfried et Rob Burns, « Germany as Kulturnation : identity in diversity »(ألمانيا بوصفها أمة ثقافية: الهوية في التنوع), in  Colvin, Sarah (dir.), op.cit., 2015, p. 202 à 206.. وبرلين هي إحدى مدن الولايات الثلاث في البلاد. في أثناء إعادة التوحيد في عام 1990، كانت برلين، كونها عاصمة، تدع مؤسّساتها الثقافيّة تقوم بدورٍ فيدرالي. ومشهدها الفنيّ، المدعوم من البلديّة (المانح الأول للإنتاج الثقافي) والولاية معاً، يتلقّى تمويلاً فيدراليّاً إضافيّاً (Hauptstadtkulturfonds، صندوق العاصمة الثقافي). ويوجد في المدينة خمسة مسارح رائدة تابعة للبلدية: (فولكسبون، المسرح الألماني، برلينر إنسيمبل أم شيفباور دام، مسرح مكسيم جوركي، شاوبوهني) التي أنشئت خلال تقسيم المدينة بمنزلة مؤسّساتٍ منافسةٍ غالباً. وقد أدّى المظهر الفيدراليّ للثقافة الألمانيّة، كردّ فعلٍ على المركزيّة الاستبداديّة، وتاريخ العاصمة المتقطّع، إلى إبطاء ظهور مسرحٍ قوميٍّ حتّى يومنا هذا. واحتلّت المسارح البلديّة الخمسة بدورها دور المسرح الطليعيّ، ثمّ دور ممثل معيار إبداعي 21Sievers, Wiebke, « Mainstage theatre and immigration: The long history of exclusion and recent attempts at diversification in Berlin and Vienna », Crossings: Journal of Migration & Culture, vol. 8, no 1, 2017, p. 73..

كان للتغيير في الموقف من الهجرة في الإنتاج الثقافيّ صدى خاصّ في برلين، المدينة الرائدة في استقبال السكّان الأجانب وتوطينهم؛ فقبيل عام 2018، كانت المدينة تستضيف 888555 أجنبيّاً، وهي أعلى نسبة بين الولايات من حيث عدد السكان22الأرقام الواردة على بوابة المكتب الفدرالي الألماني للإحصاء [جرى الدخول في 13 فبراير / شباط 2019]: https://www.destatis.de/EN/FactsFigures/SocietyState/Population/MigrationIntegration/Tables_ForeignPopulation/ForeignerLaender.html. وكان مجلس الشيوخ في برلين (حكومة الولاية)، في عام 2007، قد أقرّ عمليّة الانفتاح التي ينبغي أن تؤدّي إلى تنوّع المؤسّسات الثقافية23Sievers, Wiebke, op.cit., 2017, p. 74.. وفي هذا السياق، احتلّ مسرح مكسيم غوركي المقام الأوّل، مسرح بلديّة برلين الوحيد الذي لم يلعب دور الإمام في الإبداع المسرحيّ الألماني.

مصير “غوركي” لا ينفصل عن مسيرة شيرمين لانغهوف، أحد مديريه الحاليّين، التي ولدت في عام 1969 في مدينة بورصة في تركيا، وانتقلت مع والدتها إلى نورنبرغ في عام 1978. وخلال التسعينيّات، شاركت في مهرجانٍ سينمائيٍّ تركيٍّ، ثمّ انتقلت إلى برلين في أوائل عام 2000؛ حيث شاركت في الترويج للفنّانين من أصولٍ أجنبيّةٍ ضدّ رؤية الثقافة الوطنيّة العرقيّة24 المرجع نفسه، ص 75.. بدأت مسيرتها المسرحيّة في مسرح “هيبل أم أوفر” “Hebbel am Ufer” حيث نظّمت مع المخرج ماتياس ليلينثال عدّة مهرجانات، من بينها: مهرجان “Beyond Belonging” في العامين: 2006 و2007، الذي قدّم فنّانين مهاجرين حديثي الوصول، ما ساعد على إطلاق مسيرة عدّة كتّابٍ مسرحيّين من أصولٍ تركيّة25Weiler, Christel, « Theatre and diversity in the Berlin Republic », in Sarah Colvin, op.cit., 2015, p. 225.. وفي عام 2008، جرى تعيين شيرمين لانغوف مديرة لـ”Ballhaus Naunynstrasse”: وهو مسرحٌ يقع في قلب حيّ كروزبرغ، بُغية تطبيق قرار التنويع الذي كانت المدينة قد صوّتت له مؤخَّراً. والمسرح مشهورٌ باستضافة فرق المهاجرين منذ الثمانينيّات، في حيٍّ استقبل منذ عقود الهجرة التركيّة. حيث طوَّرت شيرمين لانغوف مفهومها لمسرح ما بعد الهجرة. هي ليست فقط مسألة وضع حدٍّ للفصل العنصريّ في الثقافة، بل ترسيخ التنوّع بعدّه معياراً للمجتمع، من خلال موضوعات وأطر الإبداع المسرحي؛ الفكرة هي تغليب انتماءٍ لم يعد يحدّده الأصل العرقي26Sievers, Wiebke, op.cit., 2017, p. 75.

في عام 2010، أنتج المسرح مسرحيّة Verrücktes Blut (الدم المجنون) من إخراج نوركان أربولات (مؤلفها المولود في أنقرة عام 1974) وجينس هيلجي (مواليد 1968) عن الأطفال المهاجرين، ونظام التعليم الألمانيّ27Wilmer, Stephen, op.cit., 2018, p. 195. هذه المسرحيّة، وهي اقتباسٌ حُرٌّ عن الفيلم الفرنسيّ البلجيكي “La journée de la jupe” (يوم التنّورة 2008)، هي عبارة عن هجاء هزليٍّ حول مفهوم الاندماج الذي يتصوّره الرأي العام. وقد حقّقت المسرحيّة نجاحاً كبيراً، ودُعيتْ في عام 2011 إلى مهرجان برلينر المسرحي “Theatertreffen”. وأشاد النقّاد بـ”Ballhaus Naunynstrasse” بإدارة شيرمين لانغوف، وكان أوّل مسرح ما بعد الهجرة يعترف به عالَم المسرح المحترف بوصفه مؤسّسةً طليعيّة. وفي عام 2013، جرى تعيين شيرمين لانغوف من قبل البلدية مديرةً فنيّةً لمسرح مكسيم غوركي، مشاركةً مع جينس هيلجي. وهي أوّل مديرةٍ من أصل أجنبيٍّ تترأس أحد المسارح الخمسة الرئيسة، وتُواصل ديناميكيّة فتح المسرح نفسها، الذي سيضمّ تدريجيّاً اللاجئين والمنفيّين في وقتٍ بدأت تتصاعد فيه وتيرة الهجرة منذ عام 2014.

أيهم آغا ومسرح غوركي

الاندماج السريع للممثّل السوريّ أيهم مجيد آغا (المولود في عام 1980) في الوسط المسرحيّ البرلينيّ جرى عبر مسرح غوركي. وكان هذا الممثل قد تخرّج في المعهد العالي للفنون المسرحيّة في عام 2002. وهو فردٌ من جيلٍ من المهنيّين المسرحيّين الذين نفّذوا مشاريعهم المسرحيّة الأولى في العقد الأوّل من القرن الحالي. حيث تشكّل هذه المجموعة الجيل الناشئ، قبيل الثورة. وقد تراكمت لدى أيهم في سوريا خبرات عمليّة في المسرح والمسلسلات التلفزيونيّة، كما قام أيضاً بالتعليم كمساعد مدرّس في المعهد العالي للفنون المسرحيّة. وبعد الربيع السوريّ، مثّل في مسرحيّات أخرجها عمر أبو سعدة (مواليد عام 1977) وكتبها محمد العطار (1981)؛ زميلان من المعهد العالي للفنون المسرحيّة (خرّيجا العامين: 2001 و2007 على التتالي). وفي عام 2012، مثّل في “فيك تتطلّع بالكاميرا؟”: وهي مسرحيّةٌ أعطت المخرج والكاتب المسرحيّ شهرةً جديدةً، وفتحت الباب لاستقبال أعمالهما في أوروبا. فيما بعد كان أيهم آغا عضواً في فريق “حميمية”، العمل الجديد للثنائيّ: أبو سعدة- العطار في عام 2013. وبعد الجولة الأوروبيّة للمسرحيّة قرّر أيهم الاستقرار في فرنسا.

ولج أيهم آغا إلى رحاب غوركي للمرّة الأولى في تشرين الثاني / نوفمبر من عام 2014 لأداء “ما عم بتذكّر” (مترجمة إلى الإنجليزية بـYou Know I Do Not Remember ) للمخرج وائل علي28 مخرج سوري من مواليد عام 1979، وهو أيضاً زميل في المعهد العالي للفنون المسرحية. انتقل وائل علي إلى ليون في عام 2007 لمتابعة تعليمه العالي في المسرح، الماجستير بدايةً، ثم تحضير أطروحة دكتوراه. بعد اندلاع الثورة بقي في فرنسا. “ما عم بتذكر” كانت أول مسرحية أخرجها في فرنسا. جرى تحضير المسرحية وبروفات العرض في ليون.. في ذلك الوقت كان أيهم آغا يقيم في باريس. ومع ذلك، في عام 2014، دعي لإقامةٍ فنيّةٍ في برلين وتقديم “Berlin calling Damascus” (برلين تهاتف دمشق)، بالتوازي مع المسرحيّة التي جاء ليمثّل فيها، وهو حوارٌ مسائيٌّ مع وائل علي، يضمّ قراءاتٍ وعروضاً لأعمالٍ سوريّةٍ في “Studio Я” (استوديو يا، مختبر غوركي المسرحي). بعد هذا الاجتماع مع فريق المسرح وشيرمين لانغهوف حصل على عقدين لمسرحيّتين في البرنامج السنويّ لدى المسرح.

انضمّ أيهم آغا إلى مسرح مكسيم غوركي في أوائل عام 2015، ومثّل في المسرحيّة المشهورة جدّاً “الوضع” “The Situation“، التي أخرجتها يائيل رونين (كاتبة مسرحيّة، ومخرجة نمساويّة إسرائيليّة من مواليد عام 1976)، لديها إقامة في غوركي منذ عام 201329Sievers, Wiebke, op.cit., 2017, p. 78.. بعد العرض الأوّل في أيلول / سبتمبر 2015، عُرضتْ في مهرجان برلين Theatertreffen 2016. وفي العام نفسه، اختيرت بصفة “مسرحيّة العام” من قبل المجلّة المسرحيّة Theater Heute. وما زالت قاعة العرض ملأى في أيار / مايو 2016. وتتناول المسرحيّة على نحوٍ مباشر مسألة “اندماج” المهاجرين في ألمانيا في إطار قاعةٍ لتعلّم اللّغة. الممثلون: سوري (أيهم آغا)، وفلسطينيّان (كريم داود، مريم أبو خالد)، وعربي “من عرب 1948” (يوسف سويد)، وإسرائيليّة (أوريت ناحمياس)، يحضرون درس لغة، ومعلّمهم (ديميتريج شاد) يتستّر على أصوله الأجنبيّة (الكازاخستانية). حيث يستخدم كلّ ممثّلٍ أصوله الحقيقيّة في الشخصيّة التي يجسِّدها، ويعكس العنوان المصطلح المستخدم للإشارة إلى الصراع في سوريا، وكذلك في كلٍّ من إسرائيل وفلسطين. كلّ ممثلٍ منهم يتحدّث بلغته (وأحياناً بلغاته)، وتظهر ترجمة للمسرحيّة مكتوبة باللّغتين: الإنجليزيّة، والألمانيّة. تحاور المسرحيّة المشاهد (الألماني) حول آرائه المسبقة، عبر فم الأستاذ، وتقدّم على المسرح هويّات معقّدة لا تقتصر على مكان الولادة. مريم أبو خالد ممثلة سوداء من مواليد مخيّم جنين في فلسطين. يوسف سويد انفصل مؤخّراً، ولديه طفل من إسرائيليّة (تجسّدها في المسرحية أوريت ناحمياس). ويسلّط أيهم آغا الضوء على الهويّة الخاصّة لسكّان دير الزور، المنحدرين من حضارات بلاد ما بين النهرين. شخصيّته تصدم الأستاذ عندما يعترف بأنّه كان يتاجر مع عناصر من داعش يقيمون في منطقته. كريم داود يمارس رياضة الباركور (الوثابة)، وهو منهاج أُسِّسَ كرياضةٍ متطرّفةٍ في أوروبا التي تطوّره من أجل المطاردات مع الجنود الإسرائيليّين. نصُّه، الراب، الذي يحاول الأستاذ ترجمته إلى الألمانيّة، مشبعٌ بإحالاتٍ معاديةٍ للسامية، ويتطلّب إعادة النظر في تحديد الصواب السياسيّ في ألمانيا. وفي خريف عام 2015، أدّى أيهم آغا دوراً في مسرحيّة “In unserem Namen” (باسمنا) للمخرج سيباستيان نوبلنغ عن نصّ “Die Schutzbefohlenen” لإلفريدي يلينك (انظر أعلاه). وعلى غرار المسرحيّة السابقة، امتلأت قاعة العرض في أيار / مايو 2016.

من خلال هاتين المسرحيّتين، تجاوز مسرح ما بعد الهجرة لشيرمين لانغهوف موضوعات الهجرة التي تناولتها مع الفنّانين المنحدرين من الهجرة التركيّة للتركيز أكثر وتحديداً على المنفى. في تشرين الثاني / نوفمبر من عام 2015، نظم مسرح غوركي الدورة الثانية من مهرجان “Herbstsalon” الذي بعد تناول مفاهيم الهويّة، والبناء الوطنيّ، والأصل في دورته الأولى، صار يتساءل عن توطين اللاجئين في برلين، ويتيح الفرصة بالكلام لثلاثين فنّاناً دوليّاً30انظر صفحة الحدث على الرابط، [جرى الدخول في 15 شباط / فبراير 2019]:https://www.berliner-herbstsalon.de/en/zweiter-berliner-herbstsalon

. وفي ظلّ هذه الديناميكيّة أنشأ المسرح في عام 2016 “The Exil Ensemble31تُنظّم المسارح الألمانيّة على نحوٍ تقليدي حول الكاتب المسرحيّ مع فرقة ثابتة بموجب عقدٍ محدّد المدّة: الفرقة الرئيسة. فيردال، لور دو، “كتّاب المسرحيات في ألمانيا الشرقية وإعادة التوحيد: التغيير التنظيمي وتجديد الهويات المهنية”، نشرة علم الاجتماع الفرنسية “ Revue française de sociologie “، المجلد 44، 2003، ص 116. (فرقة المنفى): وهي فرقةٌ خاصّةٌ لممثّلين أجبِروا على العيش في المنفى، والتي أُضيفتْ إلى الفرقة الرئيسة. كان مسرح غوركي قد اختير مسرح العام في عام 2014، وفي عام 2016 كان كذلك أيضاً. وإنّ عمله على موضوع المنفى، أسهم -بلا أيّ شك- في هذا التكريم الجديد.

سبعة ممثّلين يشكّلون هذه الفرقة الثانية، ومنهم: أيهم آغا (بصفة مديرٍ فنيٍّ مشارك)، وثلاثة ممثّلين سوريّين تخرّجوا جميعهم حديثاً في المعهد العالي للفنون المسرحيّة: حسين الشاذلي (مواليد 1985، تخرّج في التمثيل المسرحيّ في المعهد العالي للفنون المسرحيّة في عام 2012)، مازن الجبة (مواليد 1989، تخرّج في 2013)، وكندة حميدان (مواليد 1992، تخرّجت في 2015). الأخيران وصلا مباشرةً من دمشق، إضافةً إلى ممثّلين فلسطينيّين هما: كريم داود، ومريم أبو خالد، والأفغانيّة طاهرة هاشمي. عنوان أوّل عملٍ أُخرِج “Wonderland“، وطوّرته الفرقة عن عمل “أليس في بلاد العجائب” بمساعدة توماس ووديانكا: وهو ممثلٌ ألمانيٌّ من الفرقة الرئيسة. وأخرجت يائيل رونين “Winterreise” (رحلة شتوية) خلال شتاء عام 2017 في أثناء رحلةٍ بحافلة “فرقة المنفى” لمدّة أسبوعين عبر ألمانيا وسويسرا.

يقدّم أيهم آغا مشاريع هي جزء من منطق غوركي، منطق ما بعد الهجرة. في عام 2016، نظّم في استوديو يا “ Conflict Food” (الأكل الصراع)، وهو عرض / ورشة عمل للطبخ تتناول هويّة الطبَق المشتركة، وتحاول تسليط الضوء على الرهانات السياسيّة التي يمكن أن يحتويها الطبخ الوطنيّ. وفي أيلول / سبتمبر 2017، قدّم “Skelett eines Elefanten in der Wüste” (هيكل عظمي لفيل في الصحراء) في استوديو يا، مع ممثّلين من “فرقة المنفى”؛ حيث تلتقي الشخصيّات على خشبة المسرح في مواقف غير متوقّعة، وهي سمة من سمات عبثيّة الحرب. حصل أيهم على جائزة عن المسرحيّة في نسخة 2018 من “Radikal Jung”: وهو مهرجانٌ للمخرجين الشباب في ميونيخ. وفي بداية عام 2018، أعد سيباستيان نوبلنغ فيلم “Die Hamletmaschine” لـ”هاينر مولر” مع “فرقة المنفى”، مستخدماً أيضاً نصوصاً لأيهم آغا. كانت هذه المسرحيّة هي آخر تعاونٍ لآغا مع غوركي، حيث غادر المسرح في العام نفسه.

الاستقرار في الوسط المسرحيّ

قد تبدو الصورة المقدّمة عن التعاون بين أيهم آغا ومسرح غوركي مثاليّة، لكنّها تخفي بعض الأسئلة التي أثارها مشروع فرقة المنفى، لا سيّما حول فئة “المنفيّين” التي يصنَّف هؤلاء الممثّلون ضمنها. على الرغم من أنّ التعريف الذي يتبنّاه المسرح واسع: الفنّانون الذين يشكّلون الفرقة “مجبرون على العيش في المنفى32“فرقة المنفى”. جرى الدخول في 12 شباط / فبراير 2020: https://www.gorki.de/en/exile-ensemble“. استخدام “المنفى” بمنزلة فئةٍ فنيّةٍ يُناقش بين الفنّانين السوريّين المقيمين في ألمانيا. وقد تمكّنا من تحديد أنّ رهانات هذا التصنيف للمهنيّين تعكس إعادة بناء تسلسل هرميّ فنيّ بين مراحل المنفى المختلفة33Dubois, Simon, op.cit., 2018.. من جهةٍ أُخرى: يُعدّ المنفى أيضاً أمراً نسبيّاً بالنسبة إلى بعض الفنّانين الذين ما زالوا يعدّون أنفسهم قادرين على العودة إلى سوريا. وأخيراً، أدّت مسألة اللّغة إلى مشكلة؛ إذْ لا يتحدّث الممثلون الألمانيّة على الإطلاق، بعد عدّة سنواتٍ من العمل في بيئةٍ ناطقةٍ بالألمانيّة، كما أنّه كان من الضروريّ إعداد تدريبٍ لغويٍّ مكثّفٍ للفنّانين، ومع ذلك، وجد هذا الأسلوب في الاستقبال والإبداع أصداءً في مسارح ألمانيّة أخرى شهيرة.

في عام 2017، أنشأ مسرح بلديّة هانوفر فرقة يلا “Yalla Ensemble“؛ حيث دُعي متخصّصون في المسرح، سوريّون وعراقيّون، للعمل مع شباب هواة من المدينة34Totah, Ruba et Khoury, Krystel, « Theater against Borders: ‘Miunikh–Damaskus’—A Case Study in Solidarity », Arts, vol. 7, no 4, 2018, p. 2.. وفي العام نفسه، استضاف مسرح مدينة ميونيخ فرقة “Open Border“. هذه المؤسّسة، وهي واحدةٌ من أهمّ المؤسّسات على مستوى المسرح الألمانيّ من حيث عدد العروض السنويّة، يديرها منذ عام 2015 ماتياس ليليانثال، المدير السابق لمسرح “Hebbel am Ufer” في برلين، حيث بدأت شيرمين لانغهوف في تطوير مسرحها ما بعد المهجر. يأتي إنشاء الفرقة بعد سلسلةٍ من فعاليّاتٍ ينظّمها المسرح منذ عام 2015 لفتح أبوابه أمام اللاجئين35المرجع نفسه، ص 4.. وتُدعَم هذه المبادرات من قبل المؤسّسة الفيدراليّة للثقافة (Kulturstiftung des Bundes). وبعد مناقشات داخليّة حول الاستمراريّة التي ستُقدَّم، اقتُرح مشروعٌ مستدامٌ متوسّط ​​المدى، وهو إنشاء فرقةٍ من المهنيّين السوريّين36مقابلة مع كريستل خوري، آذار / مارس 2020.. كريستل خوري (من مواليد عام 1983) باحثة، وراقصة، وكاتبة مسرحيّة لبنانيّة، عُيِّنتْ لتشكيل فرقة “Open Border“. وبعد ذلك اختيرَ في بيروت أربعة ممثّلين سوريّين من خرّيجي المعهد العالي للفنون المسرحيّة: مجد فضّة (من مواليد 1982، وتخرّج في عام 2005)، كنان حميدان (مواليد 1991، وتخرّج في عام 2014)، كامل نجمة (مواليد 1974، وتخرّج في عام 2004)، جمال شقير (مواليد 1976، وتخرّج في عام 2003). كان بعضهم مقيمين في سوريا، ولكن أقاموا في ألمانيا لتشكيل الفرقة. وكانت مسرحيّتهم الأولى “Miunikh–Damaskus: Stories of One City” (ميونيخ-دمشق: حكايات مدينة) ثمرة عملٍ مع المخرجة الألمانيّة جيسيكا غلوز37ربا تتح، وكريستل خوري، المرجع السابق، 2018، ص 5.. وبمقاربة لتجارب أيهم آغا: تستخدم المسرحيّة تجاربَ حياةِ ممثلين مادةً. وفي النهاية، تمويل المشروع محدود المدّة (ثلاث سنوات)، والهدف هو دمج الممثلين في الفرقة الرئيسة على غرار ما جرى في غوركي.

خَبِر مسرح “آن دير رور” طريقةً مختلفةً للاستضافة. يجب أن نتذكّر أنّه كان رائداً في فتح فضائه المسرحيّ للآخرين. وقد اقترحت إدارة المسرح على فنّانين سوريّين مقيمين في ألمانيا تأسيس تجمُّعٍ يقوم بتنفيذ افتتاح خشباته للمسرح السوري. أمل عمران (ممثلة، مواليد 1968)، ومضر الحجي (كاتب مسرحي، مواليد 1981)، ورأفت الزاقوت (ممثل ومخرج، مواليد 1977)، جميعهم من خرّيجي المعهد العالي للفنون المسرحيّة، أسّسوا تجمّع “مقلوبة” في عام 2017. وسمح لهم الارتباط مع المسرح بالحصول على تمويلٍ من وزارة الثقافة في ولاية شمال الراين-وستفاليا، ومن المؤسّسة الفيدراليّة للثقافة حتّى عام 2021. والكاتبة المسرحيّة السوريّة رانيا مليحي (مواليد 1983، وتخرّجت في المعهد العالي للفنون المسرحيّة في عام 2008)، وهي على درايةٍ بالوضع المسرحيّ الألمانيّ، وتتقن الألمانيّة جيّداً، وكانت في صميم بناء هذه العلاقة بين إدارة المسرح والفنّانين38مقابلة مع رانيا مليحي، شباط / فبراير 2020.. قدّم التجمّع مسرحيّاته الخاصّة (ثلاث)، ودعا وائل علي لإضافة عمل مسرحيّ رابع إلى قائمة عروضه لموسم 2019-2020. لا يبدو أنّ الغرض في هذه الحالة المشهديّة هو توظيف ممثّلين في فرقة المسرح في “آن دير رور” الرئيسة، بل بالأحرى تشكيل فرقة مستقلّة قادرة على الحصول على مستويات مختلفة من التمويل العام المخصّص للمسرح الخاصّ.

خلاصة 

بدأ توطين الفنّانين المسرحيّين السوريّين في ألمانيا منذ عام 2014 بعد ردّ فعلٍ واسعٍ للوسط الثقافيّ على عدم إنصاف السكّان المهاجرين، أو المنحدرين من المهجر، في الوصول إلى منزلة الفنّان، وإلى الإنتاج. ربّما يكون المسرح (وخاصة العام) أحد القطاعات الأكثر تحفّظاً في عالم الفنّ فيما يتعلّق بالنمطيّة العرقيّة39Poirson, Martiel, « Corps étrangers », Alternatives théâtrales, n°133, 2017, p. 5. نسخة عبر الإنترنت: http://www.alternativestheatrales.be/imagesdb/pdf/corps-etrangers-m-poirson.pdf. وهكذا، بالمقارنة مع دول أوروبيّة أُخرى، خاصّةً فرنسا، يجد المحترِف السوريّ بيئةً مسرحيّةً تتيح له سريعاً -مع تطوّرٍ في ممارسة ما بعد الهجرة- مكاناً في المؤسّسات الشرعيّة في المجال العام. وتجدر الإشارة إلى أنّ المسرحيّات غالباً ما تكون عبارة عن استفساراتٍ حول الهويّة، حيث يجسّد الممثل شخصيّته الخاصّة، أو يعتمد على قصّته الشخصيّة. وإن كانت هذه التحوّلات في المشهد الألمانيّ قد سمحت له بالتكيّف سريعاً، فقد ظلّ في الوقت الحالي محصوراً في قائمة “الغيريّة”. في النهاية، تتمتّع ألمانيا ببنيةٍ مسرحيّةٍ واسعة النطاق40 في عام 2012، كان هناك 150 مسرحاً بلدياً مع فرقتها الرئيسة، وكانت 250 قاعة تستفيد من الأموال العامة والخاصة. هذا بدون احتساب المسارح المستقلة. كريستل وايلر، مرجع سابق، 2015، ص 219.، لكنّ المهنيّين السوريّين، مثل: رانيا مليحي، القادرين على فهم رموزه ولغته، ما زالوا نادرين. ومع ذلك، فقد شهدنا مؤخّراً وصول جيلٍ من الفنّانين السوريّين، المؤهَّلين في هذا السياق الإبداعيّ الجديد، إلى سوق العمل.

تمّت ترجمة هذا النص من اللّغة الفرنسية من:

Dubois, Simon, «Un destin allemand pour le théâtre syrien? Dynamiques d’une rencontre artistique», Incertains Regards, hors-série thématique, Presse Universitaire de Provence, 2021, pp. 115-124.

  • 1
    Dubois, Simon, « A Field in Exile: The Syrian Theatre Scene in Movement » (حقل في المنفى: مشهد المسرح السوري في تحرك), dans Richard Jacquemond et Felix Lang (dir.), Culture and crisis in the Arab world: art, practice and production in spaces of conflict (الثقافة والأزمات في العالم العربي: الفن وممارسته وإنتاجه في فضاءات الصراع), I.B. Tauris, London, 2019, p. 171.
  • 2
    مقابلة مع جمانة الياسري، منسّقة المشروع، أيلول / سبتمبر 2016، باريس.
  • 3
    المعهد العالي للفنون المسرحية، مقره في دمشق، وهو المعهد الأكاديمي الوحيد للمسرح في سوريا، ويتمتع بشرعية كبيرة في عالم الفن السوري. تأسس في العام 1977 على يد آباء المسرح السوري الحديث.
  • 4
    Paschalidis, Gregory, « Cultural outreach: overcoming the past? » (التواصل الثقافي: التغلب على الماضي؟), in Colvin, Sarah (dir.), The Routledge Handbook of German Politics & Culture, New York : Routledge, 2015, p. 463.
  • 5
    Dakowska, Dorota, « Au nom de l’Europe. Les fondations politiques allemandes face à l’intégration européenne » (باسم أوروبا. المؤسسات السياسية الألمانية مقابل الاندماج الأوروبي), Revue d’Allemagne et des pays de langue allemande, no 47, 2015, [عبر الإنترنت] :http://journals.openedition.org/allemagne/453.
  • 6
    Lahire, Bernard, et Géraldine Bois. La condition littéraire : la double vie des écrivains. (الحالة الأدبية: حياة الكتّاب المزدوجة) Paris : La Découverte, 2006, p. 73.
  • 7
    Dubois, Simon, « Négocier son identité artistique dans l’exil. Les recompositions d’un paysage créatif syrien à Berlin » (لتفاوض على الهوية الفنية في المنفى. تكوين مشهد إبداعي سوري في برلين), Migrations Société, vol. N° 174, no 4, décembre 2018, p. 45-57.
  • 8
    Dahdah, Assaf et Nicolas Puig (éd.), Exils syriens : parcours et ancrages (Liban, Turquie, Europe) (منافٍ سوريّة: رحلات ومراسٍ (لبنان، تركيا، أوروبا)), Lyon : Le passager clandestin, 2018, p. 7.
  • 9
    Sharifi, Azadeh, « Theatre and Migration Documentation, Influences and Perspectives in European Theatre », in Brauneck, Manfred et ITI Germany (dir.), Independent Theatre in Contemporary Europe: Structures – Aesthetics – Cultural Policy, Bielefeld : Transcript Verlag, 2017, p. 335-336.
  • 10
    Rea, Andrea, et Maryse Tripier, Sociologie de l’immigration (علم اجتماع الهجرة), La Découverte, 2008, p. 33.
  • 11
     كان طلب التجنس، على سبيل المثال، يوجب التخلي عن الجنسية الأولى، وهو وضع إشكالي بالنسبة للأتراك الذين كانوا يفقدون بعد ذلك جميع حقوق الملكية في تركيا. هذا التدبير استبعدهم فعلياً من المواطَنة الألمانية في هذا الوقت.
  • 12
     Rea, Andrea, op.cit., 2008, p. 90.
  • 13
     Sharafi, Azadeh, op.cit., 2017, p337-339.
  • 14
    Tinius, Jonas, « Authenticity and Otherness: Reflecting Statelessness in German Postmigrant Theatre », Critical Stages/Scènes critiques, no 14, 2016, [عبر الإنترنت]: http://www.critical-stages.org/14/authenticity-and-otherness-reflecting-statelessness-in-german-postmigrant-theatre/.
  • 15
    الإحصاء الذي أُجريَ في أيلول / سبتمبر من عام 2015، من قبل مجلة النقد المسرحي “nachtkritik.de“، متاح على الرابط التالي [جرى الدخول في 18 شباط / فبراير 2019]:https://nachtkritik.de/index.php?option=com_content&view=article&id=11497&catid=1513&Itemid=85.
  • 16
    المسرحية متاحة مجاناً على موقع المؤلف على الرابط [جرى الدخول في 30 تموز / يوليو 2019]: https://www.elfriedejelinek.com/fschutzbefohlene.htm
  • 17
    Wilmer, Stephen, Performing statelessness in Europe, Cham : Palgrave Macmillan, 2018, p. 30-40.
  • 18
    مخرج ألماني، من مواليد عام 1968.
  • 19
     Tinius, Jonas, op.cit., 2016,p. 8- 10.
  • 20
    Van der Will, Wilfried et Rob Burns, « Germany as Kulturnation : identity in diversity »(ألمانيا بوصفها أمة ثقافية: الهوية في التنوع), in  Colvin, Sarah (dir.), op.cit., 2015, p. 202 à 206.
  • 21
    Sievers, Wiebke, « Mainstage theatre and immigration: The long history of exclusion and recent attempts at diversification in Berlin and Vienna », Crossings: Journal of Migration & Culture, vol. 8, no 1, 2017, p. 73.
  • 22
    الأرقام الواردة على بوابة المكتب الفدرالي الألماني للإحصاء [جرى الدخول في 13 فبراير / شباط 2019]: https://www.destatis.de/EN/FactsFigures/SocietyState/Population/MigrationIntegration/Tables_ForeignPopulation/ForeignerLaender.html
  • 23
    Sievers, Wiebke, op.cit., 2017, p. 74.
  • 24
     المرجع نفسه، ص 75.
  • 25
    Weiler, Christel, « Theatre and diversity in the Berlin Republic », in Sarah Colvin, op.cit., 2015, p. 225.
  • 26
    Sievers, Wiebke, op.cit., 2017, p. 75
  • 27
    Wilmer, Stephen, op.cit., 2018, p. 195
  • 28
     مخرج سوري من مواليد عام 1979، وهو أيضاً زميل في المعهد العالي للفنون المسرحية. انتقل وائل علي إلى ليون في عام 2007 لمتابعة تعليمه العالي في المسرح، الماجستير بدايةً، ثم تحضير أطروحة دكتوراه. بعد اندلاع الثورة بقي في فرنسا. “ما عم بتذكر” كانت أول مسرحية أخرجها في فرنسا. جرى تحضير المسرحية وبروفات العرض في ليون.
  • 29
    Sievers, Wiebke, op.cit., 2017, p. 78.
  • 30
    انظر صفحة الحدث على الرابط، [جرى الدخول في 15 شباط / فبراير 2019]:https://www.berliner-herbstsalon.de/en/zweiter-berliner-herbstsalon
  • 31
    تُنظّم المسارح الألمانيّة على نحوٍ تقليدي حول الكاتب المسرحيّ مع فرقة ثابتة بموجب عقدٍ محدّد المدّة: الفرقة الرئيسة. فيردال، لور دو، “كتّاب المسرحيات في ألمانيا الشرقية وإعادة التوحيد: التغيير التنظيمي وتجديد الهويات المهنية”، نشرة علم الاجتماع الفرنسية “ Revue française de sociologie “، المجلد 44، 2003، ص 116.
  • 32
    “فرقة المنفى”. جرى الدخول في 12 شباط / فبراير 2020: https://www.gorki.de/en/exile-ensemble
  • 33
    Dubois, Simon, op.cit., 2018.
  • 34
    Totah, Ruba et Khoury, Krystel, « Theater against Borders: ‘Miunikh–Damaskus’—A Case Study in Solidarity », Arts, vol. 7, no 4, 2018, p. 2.
  • 35
    المرجع نفسه، ص 4.
  • 36
    مقابلة مع كريستل خوري، آذار / مارس 2020.
  • 37
    ربا تتح، وكريستل خوري، المرجع السابق، 2018، ص 5.
  • 38
    مقابلة مع رانيا مليحي، شباط / فبراير 2020.
  • 39
    Poirson, Martiel, « Corps étrangers », Alternatives théâtrales, n°133, 2017, p. 5. نسخة عبر الإنترنت: http://www.alternativestheatrales.be/imagesdb/pdf/corps-etrangers-m-poirson.pdf
  • 40
     في عام 2012، كان هناك 150 مسرحاً بلدياً مع فرقتها الرئيسة، وكانت 250 قاعة تستفيد من الأموال العامة والخاصة. هذا بدون احتساب المسارح المستقلة. كريستل وايلر، مرجع سابق، 2015، ص 219.