يقول الكاتب العراقي حسن بلاسم في مطلع قصّة “الأرشيف والواقع”: “لكلّ نزيلٍ في محطّة استقبال اللاجئين حكايتان: واحدة واقعيّة، وأُخرى أرشيفيّة. الحكايات الأرشيفيّة هي الحكايات التي يرويها اللاجئون الجُدد، من أجل الحصول على حقّ اللّجوء الإنسانيّ. وتُدوَّن هذه الحكايات في دائرة الهجرة، وتُحفَظ في ملفّاتٍ خاصّةٍ؛ أمّا الحكايات الواقعيّة، فتبقى حبيسةً في صدور اللاجئين، ليعيشوا على ذكراها بسريّةٍ تامّة”.1بلاسم، حسن، معرض الجثث (٢٠١٥)، منشورات المتوسط، ميلانو، ٢٠١٧، ط٢، ص ١١. وأنا أقول: إنّ هناك حكاية ثالثة سريّة أيضاً، تلك التي تدور في عقل ولا وعي المُترجم، وهو ينقل ما يصفه بلاسم بالحكاية الأرشيفيّة إلى لغة بلد اللّجوء. هذه الحكاية الثالثة صامتةٌ بالمُطلق؛ إذْ يُفترض من المترجم الاختفاء تماماً خلف “أنا” طالب اللّجوء/الراوي، ليَنقُل قصَّتَه بحَرفيّةٍ وحيادٍ تام. المُترجم في دائرة اللّجوء لا اسم له، ولا جنسيّة، وإن كانت اللّهجات العربيّة تكشف بسرعة عن البلد، أو المنطقة التي يأتي منها المُتحدِّث. في الحكاية الثالثة، تتداخل قصّة طالب اللّجوء مع ذكريات المُترجم، والإسقاطات التي يُمكن أن يقوم بها بسبب علاقته الشخصيّة بفضاءٍ جغرافيٍّ وتاريخيٍّ ينتمي إليه أيضاً، إن كان عبر الجنسيّة التي يَحملها، أم عبر اللّغة كقاسمٍ مُشتركٍ بما تُحرّكه من ذاكرةٍ جماعيّةٍ لدى المُتحدِّثين بها. ومع الوقت، ستختلط كلّ القصص التي يسمعها ويترجمها لتصبح حكايةً واحدةً طويلةً جدّاً، أبطالها كُثُر، وتقع أحداثها في مساحةٍ زمانيّةٍ ومكانيّةٍ تفوق الواقع كما في الملاحم، حكاية فيها شيء منه، ومن ماضيه أيضاً. والشخص الوحيد الذي يمكن أن يكشف ما يدور في عقل ولا وعي المترجم هو صاحب الحكاية.
في أثناء مقابلة تقديم طلب اللّجوء، هناك قدرٌ كبيرٌ من الأشياء التي لا تُقال، تماماً كما هو الحال في شرطيّة المسرح كفضاءٍ للحكاية، يقبل المُتفرّج أن يتماهى معه على الرغم من طابعه الاقتصاديّ والدلاليّ. يعرف المترجم عندما يحجب الراوي جزءاً من قصّته، عندما يكذب، عندما تتداخل ذكرياته بسبب كلّ ما عاشه وشهده حتّى وصل إلى مكتبٍ صغيرٍ سيحكي فيه لغرباء عن تفاصيل حياته الأكثر عُنفاً وخصوصيّة، حتّى إنّ لدى المُترجم قدرةً على تخمين معنى ما لا يُقال، ولحظات الصمت الطويلة، ولكنّ المترجم لا يُعلِّق، ولا يُصحِّح، ولا يَفضَح. يتبادل طالب اللّجوء والمُترجم النظرات، يفهمان على بعض خاصّة إن كانا من البلد نفسه، والفهم هنا ليس بالمعنى اللغويّ وحْده؛ إذْ يكفي سماع لهجة، أو طريقة كلامٍ مألوفة، لإثارة انفعالات ومشاعر ناتجة عن فقدانك لمكانٍ صار بعيداً جدّاً عنك. يتحرّك شيءٌ لدى المُترجم إذا ذَكر طالب اللّجوء اسم شارع يعرفه جيّداً، وسيرى طالب اللّجوء في عينيّ ولغة جسد المُترجم أنّه يعرف تماماً عمّا يتحدّث. وكما هو الحال في أيّ علاقةٍ أُخرى، قد يحدث انجذابٌ، أو نفورٌ بينهما، والانجذاب هنا ليس بالمعنى العاطفيّ، أو الجنسيّ، إنّما تلك الكيمياء الغامضة التي تجعلك تنسجم وتتفاهم مع أشخاصٍ دون غيرهم. الانسجام مع صاحب الحكاية خطرٌ جدّاً؛ لأنّه قد يولّد حالةً من التحويل والتحويل المُضادّ التي تحدث على صعيد اللا وعي بين صاحب الحكاية والمُترجم، تماماً كما قد يحدث في علم النفس بين المريض والمُعالج، وقد تصل هذه الحالة إلى حدّ التماهي، خاصّةً أنّ المُترجم يقول: “أنا” عندما يتحدَّث على لسان صاحب الحكاية. وكما في علم النفس أيضاً، ينبغي للمُترجم السيطرة على مشاعره، ومقاومة رغبته بالتواطؤ مع مُقدِّم الطلب؛ أي: الامتناع عن مساعدته عبر إجراء تعديلاتٍ على السرد يعرف المُترجم أنّها قد تدعم طلب اللّجوء؛ لأنّ ما يقوله صاحب الحكاية؛ أي: قدرته على القَصّ، والإقناع، وإعطاء طابعٍ شخصيٍّ للأحداث؛ هي من أهمّ العناصر التي ستجعل طلبه يجد قبولاً في دوائر اللّجوء؛ أمّا إذا نفر المُترجم من صاحب الحكاية؛ لأنّه كشف كذبه، أو لأنّه ضاق ذرعاً من عدم قدرته على الحكي على نحوٍ واضحٍ ودقيقٍ، أو إن اختلف معه في الرأي، أو فهم أنّه من معسكر الجلّادين، أو بكل بساطةٍ لأنّ الكيمياء لم تَحدُث بينهما، سيدخل المُترجم في صراع مع نفسه لكي يُنصف بحقّ الحكاية التي ينبغي أن ينقلها بحيادٍ تامٍّ، ومن دون إطلاق أحكام قيمة عليها، ولا على صاحبها. وكم يخشى طالبو اللّجوء الوقوع على مترجم لا يتعاطف معهم، ولا يُصدّقهم، ولا يَدعم حكايتهم!
في مطلع عام ٢٠٢١، بدأت العمل كمترجمةٍ من اللّغة العربيّة وإليها -تحديداً اللهجات المشرقيّة –2تتضمن اللهجات المشرقية: سوريا، لبنان، فلسطين، العراق، الأردن، بلدان الخليج العربي، مصر، اليمن… في المكتب الفرنسيّ لحماية اللاجئين، وعديمي الجنسيّة، وفي المحكمة الوطنيّة لحقّ اللّجوء في باريس، وهو عمل لم يكن ليخطر لي يوماً القيام به نظراً لخلفيّتي المهنيّة في المجال الفنيّ والثقافيّ. أتى عملي كمترجمة في دوائر اللّجوء كحلّ اعتقدت في البداية أنّه سيكون مؤقّتاً بعد التحوّلات التي طرأت على الحقل الثقافيّ والفنيّ على أثر جائحة كوفيد-١٩. كان قد تغيَّر العالم، ومعه العمل في الفنّ والثقافة على المستوى الدوليّ، ما أدّى إلى انقطاعٍ مفاجئٍ في مسيرتي المهنيّة نتج عنه قدرٌ كبيرٌ من القلق والشعور بالإحباط. كنت قد انتقلت من دمشق إلى باريس لمتابعة الدراسة في خريف عام ٢٠١٠، ومنذ ذلك الحين، وأنا أعيش بعيدةً عن سوريا والمنطقة العربيّة بما يجتاحها من نزاعاتٍ وتحوّلاتٍ تاريخيّةٍ كُبرى، وإن كان عملي كمديرةٍ وباحثةٍ ثقافيّةٍ مرتبطاً على نحوٍ عضويٍّ بفنّاني المنطقة العربيّة، وفاعليها الثقافيّين في بلدانهم الأصليّة، وفي الشتات. أخذت مسألة الفنّ في المنفى حيّزاً كبيراً من تفكيري ونشاطي المهنيّ، ولكنّني استطعت بطريقةٍ ما وضع مسافةٍ مع الأحداث ومَنشئها الجُغرافيّ؛ لكي أحاول التركيز على بناء حياةٍ جديدةٍ في باريس. وهكذا توقّفت عن التهام الأخبار عندما أصبحت الصور الآتية من سوريا، وصور اللاجئين في المخيّمات، وقصص الرحيل والغرق في البحر الأبيض المتوسط، شديدة الرُعب والكَوارِثيّة. كما أدَّت المسافة إلى تعثُّر فهمي لما كان يدور على الأرض، ليس في سوريا وحْدها، إنّما في المنطقة عموماً؛ إذْ يتطلَّب فهم ما يجري في العراق، واليمن، ومصر، ومختلف مراكز العنف والقمع في ما يُسمّى بالمشرق العربيّ، متابعةً دائمةً للأخبار بأدقّ تفاصيلها. كما عقَّدت أصولي السوريّة، والعراقيّة، والفلسطينيّة علاقتي مع مجريات الأحداث، وجعلتني أنشغل بتساؤلاتٍ وجوديّةٍ حول معنى الهويّة بالعلاقة مع الحدث، وحركة التاريخ. والحقيقة أنّ عملي كمديرةٍ ثقافيّةٍ على المستوى الدوليّ كان قد ساعدني على الابتعاد؛ إذْ كنت أسافر وأتنقّل باستمرار بين القارّات حتّى أتت الجائحة لتُشكِّل انقطاعاً جديداً في حياتي، وفي حياة كلّ من حولي. وهكذا، عندما أتت فرصة العمل كمترجمة مع طالبي اللّجوء في فرنسا كحلٍّ أمام تلاشي فرص العمل في الفنّ والثقافة، عاد هذا التاريخ ليُمسك بي وليضعني في مواجهة جُلّ ما كنت أخشى، وأعمل جاهدةً على تجاوزه. لم تكن مقاومتي للأحداث نابعةً من إنكارٍ، أو موقفٍ سياسيٍّ، إنّما فقط ضرورة من أجل احتمال الحياة بكلّ ما جلبته من صدماتٍ وفقدانٍ خلال العقد الأخير.
دخلت إلى عالم طالبي اللّجوء في فرنسا بمحض المصادفة، فأنا لستُ مُترجِمةً محترفةً، وإن قادني عملي في المجال الثقافيّ على المستوى الدوليّ إلى ترجمة عددٍ كبيرٍ من النصوص والسياقات. منحتني أصولي السوريّة، والعراقيّة، والفلسطينيّة، إضافة إلى فهمي لمختلف لهجات المنطقة، المقوّمات اللازمة لأن أتحوَّل إلى مترجمةٍ تنقل قصص طالبي اللّجوء خلال خطواتٍ مصيريّةٍ شديدة الحساسيّة والتعقيد الإداريّ، والقانونيّ، والنفسيّ أيضاً. صحيحٌ أنّي عملت كثيراً على موضوع الفنّ في المنفى، ولكنّني لم أكن على درايةٍ كافية بكيف يُصبح المرء لاجئاً على نحوٍ رسميٍّ من الناحية الإجرائيّة والقانونيّة. يستخدم معظمنا كلمة “لاجئ” على نحوٍ اعتباطيٍّ عندما نتحدّث عن المُهاجرين لأسبابٍ سياسيّةٍ، أو إنسانيّةٍ، وعن النازحين على أثر الحروب والأزمات، وعواقبها الاقتصاديّة، والسُكانيّة، والمناخيّة، ولكنْ من الناحية القانونيّة، فاللاجئ هو الذي يحصل على الحماية الدوليّة ضمن اتّفاقيّة جنيف للاجئين التي جرت المصادقة عليها عام ١٩٥١ لتوفير الحماية لملايين المُهجَّرين الأوروبيّين عقب الحرب العالميّة الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥)، التي طرأت عليها عدّة تعديلات منذ ذلك الحين لتُلبّي احتياجات المُهجَّرين، والنازحين، والمنفيّين في أنحاء العالم كافّة. لسنا هنا بصدد الدخول في تفاصيل الاتّفاقيّة وتعقيداتها القانونيّة، إنّما التأمّل في موقع المترجم ضمن هذه السلسلة القانونيّة والإجرائيّة التي تُحدّد مصير ملايين النساء، والرجال، والأطفال الذين اضطرّوا إلى مُغادرة بلدانهم وعدم العودة إليها بسبب شتى أشكال العنف التاريخيّ والسياسيّ، وأحياناً الاجتماعيّ أيضاً. بالفعل، هناك دراماتورجيا خاصّة جدّاً بمقابلات اللّجوء، وجلسات الاستماع إلى طالبي اللّجوء الذين يطعنون بالقرارات التي تُؤخَذ بحقّهم. السينوغرافيا ثابتة لا تتغيَّر، إن كان فيما يُسمّى “العُلبة” (box) في مكتب الحماية أم في قاعات محكمة حقّ اللّجوء، حيث يجلس هناك مؤدّي/طالب اللّجوء مقابل جمهور/موظّفي وقضاة الحماية3موظف الحماية: هو الشخص الذي يُجري مقابلة تقديم طلب اللجوء ويدرس الطلب قبل أن تأخذ إدارة الحماية قراراً فيه، وقاضي الحماية: هو الشخص الذي يحكم في حال طَعن مُقدم طلب الحماية القرار الذي أخذه مكتب الحماية بحقه وهناك سببان للطعن: نوع الحماية، أو الرفض. الحماية نوعان: الحماية الدولية التي تُمنَح في حالة اللجوء السياسي، أو الإنساني بناءً على مخاوف شخصية ومُدتها عشر سنوات تُجدّد أوتوماتيكياً وهي التي تَمنَح صفة “لاجئ”، والحماية المؤقتة التي تُمنح بسبب تردي الأوضاع الأمنية في بلد طالب الحماية ومُدتها عادةً أربع سنوات، وقد لا تُجدّد في حال عدّتْ السُلطات في بلد اللجوء أن الوضع أصبح آمناً ويُمكن أن يعود الشخص المَحمي إلى بلده. انظر: https://www.unhcr.org/ar/4be7cc27201.html؛ أمّا المُترجم، فيُمكن تشبيه دوره بدور الدراماتورج في المسرح، ذلك الشخص الذي يساعد على طرح الأسئلة وعلى فهم ما بين السطور. لكلٍّ دوره الثابت في هذه العمليّة الإجرائيّة القائمة على التكرار؛ إذْ تُطرح الأسئلة نفسها على الجميع، وإن طَرأ عليها بعض التعديلات حسب الحالات التي تُدرَس. وكما في العرض الحيّ، يتفاوت مستوى المقابلة، أو الجلسة، حسب مجموعةٍ من المعطيات الخارجيّة والداخليّة التي تُؤثِّر على الأداء والتلقّي، خاصّةً الطابع الدراماتيكيّ لحكاية طالب اللّجوء، وقدرته على الحكي، وإعطاء طابعٍ شخصيٍّ للأحداث وإثارة التعاطف، ومن ثمّ قدرة المُترجم على نقل/إعادة تمثيل القصّة، وصوت صاحبها، إضافةً إلى جاهزيّة موظّف، أو قاضي الحماية لاستقبال وتصديق هذه القصّة. من هنا تنشأ ثلاثة نصوص متراكبة ومتداخلة بلغتين: نصّ صاحب الحكاية بلغته الأصليّة، نصّ موظّف، أو قاضي الحماية بلغة بلد اللّجوء، ونصّ المُترجم، وهو نصٌّ مزدوَج اللّغة كونه صلة الوصل بين العالمين.
عالم المترجمين في مجال اللّجوء الإنسانيّ خاصٌّ جدّاً، وهذا ما استشفّيته منذ دخلت للمرّة الأولى إلى غرفة المترجمين في المكتب الفرنسيّ لحماية اللاجئين، وعديمي الجنسيّة؛ غرفة صغيرة تجمع مُمثّلين عن مختلف البلدان العربيّة، والإفريقيّة، وبلدان أوروبا الشرقيّة، وآسيا الوسطى، وأمريكا اللاتينيّة… وعن كل بقاع الأرض التي تشهد اليوم درجات مختلفة من القمع، والحروب، والأزمات الإنسانيّة. في هذه الغرفة، كما هو الحال في غرفة المترجمين في المحكمة الوطنيّة لحقّ اللّجوء في باريس، تسمع لغاتٍ مختلفة، وترى تجمُّعاتٍ حسب الجنسيّات، والإثنيّات، واللّغات، حتّى إنّه يمكنك تذوُّق طبق صوماليّ، أو شُرب شاي أفغانيّ، وأنت تستمع إلى نقاشٍ ساخنٍ حول تطوّرات الأوضاع في مالي. نسخة مصغَّرة عن عالم المُهاجرين في فرنسا بتعدّديّته، وبكلّ ما تكشف عنه هذه التعدّديّة من تعقيداتٍ على صعيد العلاقة مع بلد الاستقبال/فرنسا، وحتّى على صعيد طبيعة العلاقات -إن وُجدت- بين مختلف مجتمعات الشتات التي يُمثّلها المُترجمون. تقول هذه الغرفة الكثير عن حال العالم اليوم، فهي تحتوي على عددٍ لا يُحصى من قصص الهجرة والرحيل، قصص تتراكب عناصرها المُتشابهة والمُتكاملة على نحوٍ متكرّر، أو ما يُطلق عليه في لغة النقد اسم Mise en abyme، مع كلّ القصص التي ينقلها المُترجمون على مرّ السنين لتصبح جزءاً منهم أيضاً عبر التداخل بين “أنا” مُقدّم طلب اللّجوء وبين “أنا” المترجم، وهذا التراكب يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ المسرح داخل مسرح حيث تُصبح الحكاية الإطار، والحكاية داخل الحكاية، مرآة لبعضهما.4انظر “المسرح داخل مسرح” في: إلياس، ماري وقصاب حسن، حنان، المعجم المسرحي، مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ١٩٩٧، ص ٤٣٥.
أقول: إنّ عالم طالبي اللّجوء، وعالم المترجمين في مجال اللّجوء الإنسانيّ، هما مرآة لبعضهما؛ لأنّ أسباب مغادرة المترجمين لبلدانهم شبيهة بأسباب مغادرة طالبي اللّجوء، وإن لم يكونوا بالضرورة مُعرَّضين للخطر على نحوٍ شخصيٍّ (الحرب، تفشّي العنف، الأزمات الاقتصاديّة، الانعتاق الشخصيّ من القمع الاجتماعيّ…)، ولأنّك إذا سألت مُعظم المترجمين في دوائر اللّجوء عن كيف انتهى بهم المطاف في هذا الموقع، ستفهم الكثير عن قضايا الاندماج، والتنوُّع، والتضمين في بلدٍ أوروبيٍّ مثل فرنسا، له حكايته الطويلة وغير المنتهية بعد مع مستعمراته السابقة. وإن كانت هذه التأمّلات نابعةً عن تجربتي الشخصيّة، وقراءتي الذاتيّة لهذا العالم، إلّا أنّني شبه مقتنعةٍ بأنّه لا يمكنك أن تختار بكامل إرادتك أن تصبح مُترجماً في عالم طالبي اللّجوء إن كان لديك خيار آخر، فهو عملٌ صعبٌ ومُجهِدٌ على الصعيدَيْن: الفكريّ، والنفسيّ. عمل لا مساحة فيه للأنا، لن تتطوَّر فيه، ولن تحصل على ترقيةٍ، ولن تكسب من خلاله الكثير من المال. كما أنّه عملٌ مرهونٌ بحركة التاريخ، وموجات الهجرة، والسياسات الداخليّة غير الثابتة، التي ينتقّل تركيزها كلّ حين على جنسيّاتٍ، أو مجموعاتٍ إثنيّةٍ، أو دينيّةٍ دون غيرها، وإن توقّفت الحروب والنزاعات، وحلَّ السلام والعدل في العالم، لن تعود هناك حاجة إليك، ما يجعلك تشعر كأنّك تقتات على الظلم، والعنف، والموت. كما سيقودك عملك كمترجم في مجال اللّجوء الإنسانيّ إلى المساهمة في اختراق خصوصيّة طالب اللّجوء، والنبش في كلَّ ما يسعى جاهداً إلى نسيانه، وستضطرّ إلى أن تحبس دموعك في كلّ مرّةٍ يبكي فيها طالب، أو طالبة اللّجوء وأنا شخصيّاً لم أكن قد رأيت هذا القدر من الرجال الذين يبكون أمامي بسبب شعورهم بالخوف، والانكسار، والهزيمة. وإن أتقنت -كمُترجمٍ- تقنيّات مقابلة طلب اللّجوء، وصرت تعرف الهدف من كلّ سؤالٍ، وكيف ستُفهَم الإجابة عنه، ذلك لن يمنعك من الشعور بالخجل -خجل يصل أحياناً إلى حدّ الغضب- كُلّما ترجمت سؤالاً ليس بمكانه، أو ينمّ عن عدم معرفةٍ، أو حتّى فيه شيء من التعالي، أو عندما يُطلب منك تكرار السؤال نفسه عدّة مرّات حتّى الإنهاك. قُل أكثر. احكِ أكثر. تفاصيل، تفاصيل، والمزيد من التفاصيل. القصّ وحْده سيَنقذك، فالصمت عدوّ طالب اللّجوء. ما أريد أن أقوله هو: إنْ قَبلت أن تكون جزءاً من هذه السلسلة، فمن المُرجَّح أنّه لم يكن لديك خيار آخر، كما ليس لطالب اللّجوء من خيارٍ آخر سوى أن يترك بلده. ولعلّك دخلت إلى هذا العالم من باب الرغبة في مساعدة طالبي اللّجوء ظانّاً أنّه نشاطٌ ستقوم به على نحوٍ مؤقَّتٍ، ولكنْ ما يحدث غالباً هو أنّك ستتورَّط فكريّاً وعاطفيّاً مع طالبي اللّجوء، وسيصبح من الصعب عليك مغادرة هذا العالم كأنّك أدمنت على هذه القصص، وما تثيره لديك، أو هذا ما حدث معي.
معظم المترجمين الذين قابلتهم لديهم مستوى علميٌّ وثقافيٌّ عالٍ، يتقنون عدّة لغات، على درايةٍ واسعةٍ بالتاريخ وبالشؤون السياسيّة والقانونيّة، أشخاص كانت لعددٍ كبيرٍ منهم مشاريع وطموحات أُخرى، ولكنّ تعثُّر مساراتهم في الهجرة فرض عليهم القبول بهذا الموقع. من مُخرج الأفلام الوثائقيّة الإثيوبيّ الذي لم يصنع فيلماً منذ سنوات، إلى الباحثة السودانيّة في الإثنولوجيا والدراسات النسويّة التي لا تعمل في مجالها، إلى الموسيقيّة البنغاليّة التي تأذّى عمل فرقتها على أثر جائحة كوفيد-١٩، وصولاً إليّ. تحكي مسارات المترجمين في مجال طلبات اللّجوء الكثير عن الإحباط المهنيّ، وبذلك الاجتماعيّ الذي يمكن أن يعاني منه المهاجرون في بلدٍ مثل فرنسا. ولكنْ ما يسمح لك بتجاوز هذا الإحباط، ويساعدك على إعادة ترتيب الواقع، وعلى إعطاء منظور آخر للأشياء، هي القصص والشهادات التي يُطلب منك أن تترجمها، وكذلك الصداقات الجديدة التي تنشأ في حياتك مع مُترجمين من جنسيّاتٍ عديدة، يشاركونك تساؤلاتك وما يتولَّد لديك من مشاعر وانفعالات بسبب موقعك الحسّاس كجسرٍ لُغويٍّ، وثقافيٍّ أيضاً، بين المحوَر والهامش.
لا يُعيدُ طالبو اللّجوء ابتكار الهامش وحْده، فإنْ تأمَّلت مسارات عددٍ كبيرٍ منهم ستفهم أنّهم اضطرّوا إلى الهروب من بلادهم؛ لأنّهم أرادوا بلحظةٍ ما إعادة ابتكار العالم. منذ بدأتُ العمل كمُترجمةٍ في دوائر اللّجوء في فرنسا، تسنّى لي الاستماع إلى عددٍ كبيرٍ جدّاً من الشهادات عن قصص النضال، والمقاومة، والحُلم بالتغيير، ليس على الصعيد السياسيّ وحْده، ولكنْ أيضاً على صعيد التحرُّر الشخصيّ من قيود وضغوطات المُجتمع، كقصص النساء المُعنَّفات، والأمّهات العازبات، أو المثليّين والمتحوّلين جنسيّاً. كنت أتمنّى أن أحكي لكم عمّا سمعت وشهدت؛ لأنّ هذه القصص كانت لتُلهمكم بدوركم من أجل إعادة ترتيب واقعكم الشخصيّ، ولكنّني مُلزمةٌ بالسريّة التامّة، ليس فقط بسبب قَسَم المُترجم، ولكنْ لأنّ لهذه القصص حُرمة يجب احترامها وحمايتها. أعرف أنّ هناك العديد من الأعمال المسرحيّة، والسينمائيّة، والأدبيّة القائمة على هذا النوع من الشهادات، ولكنّني أظنّ أنّ ما يحدث خلال عمليّة تقديم طلب اللّجوء مُختلف، إنّه مادّةٌ نيّئةٌ غير مُعَّدةٍ فنيّاً، تقتضي الكثير من التعرّي في إطارٍ إداريٍّ وبيروقراطيٍّ بارد. لا أقول: إنّ موظّفي وقضاة الحماية عديمو الإنسانيّة، فمن المؤكّد أنّهم يتأثّرون أيضاً بهذه القصص، وقد عملت مع العديد من موظّفي الحماية الحريصين على العلاقة الإنسانيّة التي تنشأ مع مُقدّم الطلب خلال المقابلة، ومنهم حتّى من يعي ضرورة وجود دعمٍ نفسيٍّ للكوادر العاملة في دوائر الحماية. ولكنْ في النهاية، هناك شخصٌ يحكي ويطلب وشخصٌ يسمع ويأخذ قراراً، والمترجم وسيطٌ في هذه العمليّة، ينبغي له أن يَكتم رأيه، وانفعالاته، وحكايته المُتقاطعة في مكانٍ ما مع حكاية طالب اللّجوء.
في كلّ مرّةٍ أخرج فيها من مكتب الحماية ومحكمة حقّ اللّجوء، أحمل معي شعوراً بالثقل، وإنْ كانت في كلّ مرّةٍ تزداد معرفتي بالعالم الذي آتي منه، وبالعالم الذي أعيش فيه اليوم. من المؤكّد أنّ جميع القصص التي أترجمها ليست على المستوى نفسه من الحساسيّة والتعقيد، ولكنّها بجميع الأحوال قصص فقدان وهروب. وعلى الرغم من الشعور بالثقل الذي لم يعد يفارقني منذ بدأت العمل كمُترجمة في دوائر اللّجوء، وتداخل مجمل هذه القصص مع بعضها بسبب كثرتها وتقاطعاتها التاريخيّة، أشعر بأنّني استعدت شيئاً من علاقتي ببلداني المفقودة: سوريا، وفلسطين، والعراق، وصرت أفهم أكثر كيف وصلنا إلى هذا الوضع المُزري الذي أصبح قاسماً مشتركاً في مختلف أنحاء المنطقة العربيّة. قد تسلبك هذه المعرفة القدرة على التفاؤل والشعور بالأمل، تجعلك تلامس نقطة عدم العودة، وتضع لها مئات الوجوه والأصوات بتعدّد أشكالها ولهجاتها، ولكنْ في زحام الكوارث هذا تحدث أيضاً بعض اللقاءات المُختلفة، لقاءات تفرض عليك أن تتماسك وتستمرّ على الرغم من كلّ شيء، وقد تفرض هذه القوّة الداخليّة نفسها عليك عبر تفصيلٍ يبدو بسيطاً في ذاكرة أحدهم بما يحرّكه في ذاكرتك الشخصيّة، كأنْ يصف أحدهم شكل وطعم حبّات الطماطم في الحقل الذي لن يعود إليه يوماً، أو كيف كان يصنع البقلاوة في محلّ حَلوى دمّرته الحرب. قصص الهامش هذه هي بالمحصّلة قصص نجاح ومقاومة، نجاح الخروج على قيد الحياة بعد عبور شتّى أنواع الصعاب والمِحَن. قلت: إنّ لهذه القصص طابعاً ملحميّاً، فيها شيءٌ يفوق الواقع والخيال على حدٍّ سواء. أرجو ألّا تفهموا من كلامي أنّني أعطي صورةً مثاليّةً للاجئ، ولكنّه بالتأكيد بطل حكايته الشخصيّة، وإن كان لا أحد في نظر عالم يسعى جاهداً إلى تجاهل هذا الهامش؛ لأنّه يذكّره ببشاعته، ولا إنسانيّته. وإن لمسك عالم المهاجرين والمهجرِّين بطريقةٍ ما، ستشعر بمسؤوليّة تكريم الحياة بجمالها وشقائها، وكم مرّة فكّرت بكتاب الراحل سمير قصير “تأمّلات في شقاء العرب” منذ دخلت إلى هذا العالم! بالفعل: “خصوصيّة شقاء العرب أنّه يضرب فئات لا يطاولها الشقاء في المجتمعات الأُخرى، ويتجلّى في المفاهيم والمشاعر أكثر من تجلّيه في الأرقام، بدءاً بالشعور المتجذّر والشائع بأنّ المستقبل مسدود. أمام الداء العضال ذي الأوجه العديدة الذي قد ينهش العالم لا مجال للاستكانة، إلّا عبر الهروب الفرديّ”.5قصير، سمير، تأملات في شقاء العرب (٢٠٠٤)، تر: جان هاشم، مر: هيثم الأمين، دار النهار للنشر، بيروت، ٢٠٠٥، ص ٢٠. وأنا اليوم مُمتنّةٌ لكونه تسنّى لي الاستماع إلى مئات قصص الهروب الفرديّ على لسان أصحابها.
أشكر طالبي اللّجوء الذين ترجمت قصصهم، على شرحهم للعالم، ولكلّ ما عجزت عن فهمه خلال العقد الأخير، فلولاهم لما فهمت حيثيّات ما يحدث في مختلف أرجاء الرقعة الجغرافيّة التي تشملها اللّهجات العربيّة التي أُترجمها. لا نشرات أخبار، ولا تحليل سياسيّ قادر على جعلك تدرك ما يحدث فعلاً على الأرض كما تقوم به قصص الناس العاديّين. كما أشكرهم على إدخال مفرداتٍ جديدةٍ على لغتي بكلّ ما تتطلّبه من دقّة في التعبير، ومعرفةٍ بجغرافيا المنطقة، وتاريخها، وتنوُّع سكّانها، وكم مرّة عُدت إلى المنزل للبحث عن شيء سمعت عنه للمرّة الأولى على لسان أحد طالبي اللّجوء! ومن المؤكّد أنّني اليوم بتُّ أعرف أكثر، ليس فقط عن مُجريات التاريخ، ولكنْ أيضاً عن القدرة على الاحتيال عليها وتحدِّيها. أشكرهم على إعطائي معنى جديداً للمُعاصرة، فإنسان القرن الحادي والعشرين الهارب من مناطق النزاع، وشتّى أشكال القمع السياسيّ والاجتماعيّ، هو إنسانٌ عابرٌ للحدود الجغرافيّة، والتاريخيّة، والاجتماعيّة، والنفسيّة. إنسانٌ يتحرّك في العالم بطريقةٍ مختلفةٍ فيها شيءٌ من الحاضر والماضي على حدٍّ سواء، كركوب البحر، وعبور الصحاري. إنسانٌ تتلوَّن لغته/لهجته بلغات ولهجات البلدان التي يعبرها، ومن يُقابلهم على الطريق. لن أنسى ذلك الشابّ العراقيّ الذي أمضى سنواتٍ في أحد مخيّمات اللاجئين في أوروبا، ليخرج منه، وهو يتحدّث العراقيّة بلكنةٍ سودانيّةٍ، ويجيد الألمانيّة، والإنجليزيّة، والداري، والبَشتو (لغات أفغانستان الأساسيّة) بطلاقةٍ شديدة. يجيد هذا الشاب الذي لم يتجاوز التاسعة عشرة من العمر لغات المِحوَر والهامش على حدٍّ سواء. وهناك أيضاً طالبو اللّجوء الأُميّون، هؤلاء الذين كانوا دوماً على الهامش في بلدانهم الأصليّة، وحُرموا من أبسط حقوقهم كالحقّ في التعليم؛ بسبب منشئهم الإثنيّ والاجتماعيّ. هؤلاء يفاجئونك أيضاً؛ إذْ قد تَظنّ أنّ تهميشهم في مجتمعاتهم الأصليّة سيجعلهم عديمي الحيلة في منافيهم المُختلفة، لتُدرك أنّهم في الحقيقة تدرّبوا على هذه الحياة منذ مجيئهم إلى العالم، ولديهم قدرة خارقة على التأقلم وإعادة ابتكار أنفسهم. أعود لأقول: إنّني لست بصدد إعطاء صورةٍ مثاليّةٍ لجميع من صادفتهم في عملي كمُترجمةٍ في مجال اللّجوء الإنسانيّ، فمن المؤكَّد أنّني التقيت أيضاً بعددٍ لا بئس به من الكذّابين والمُحتالين، حتّى إنّ منهم من تلاشت هويّته منذ غادر بلده الأصليّ، وأصبح من الصعب جدّاً إعادة الإمساك بها، ولكنّني أعود للتفكير في الأسباب التي دفعتهم إلى الكَذِب والاحتيال أصلاً. حتّى إنّ هناك من يجري إقصاؤهم من حقّ الحماية الدوليّة، وهُم أشخاصٌ ارتكبوا جرائم حربٍ، وجرائم ضدّ الإنسانيّة، وتعاونوا مع جهاتٍ قمعيّةٍ، أو إرهابيّةٍ، هؤلاء قابلت بعضاً منهم أيضاً، وكانت هذه اللقاءات من أصعب الأشياء التي قُمت بها في عملي كمُترجمةٍ في مجال اللّجوء الإنسانيّ، فكيف لك أن تلزم الحياد ولا تُعطي أحكام قيمة عندما تجد نفسك أمام مُجرمٍ يلبس دور الضحيّة؟ ومن المؤكّد أنّ عملي كمُترجمةٍ مع طالبي اللّجوء أثار لديّ وعياً جديداً بمفهوم العدالة والقانون أيضاً، لأنّ دوائر اللّجوء ليست مُنظّمات إنسانيّة، إنّما دوائر قانونيّة قبل كلّ شيء.
تقودني مجمل هذه الملحوظات، ومراقبتي لعالم طلبات اللّجوء في فرنسا؛ حيث أُقيم منذ اثني عشر عاماً على خلفيّة دمار سوريا، وجزءٍ كبيرٍ من المنطقة العربيّة، إلى التفكير في موقعي الشخصيّ من هذا العالم، في هروبي الفرديّ من الكوارث المحيطة بنا منذ ما يزيد عن عشر سنوات. إن كان عملي كمُترجمةٍ مع طالبي اللّجوء أتى كحلٍّ أمام غياب فرص العمل في فرنسا؛ حيث يَصعب اختراق المؤسّسات الثقافيّة والفنيّة من قبل مُهاجري البلدان غير الأوروبيّة، إلّا أنّه يبدو اليوم كأنّ كلّ شيءٍ في حياتي وتاريخ عائلتي قادني إلى هذا الموقع؛ حيث يتحتّم عليّ أن أكون. لست لاجئةً بالمعنى القانونيّ، ولكنّني كُنت دائماً في مكان ليس مكاني الأصلي. أتحدّث في مختلف النصوص التي أكتبها عن قصّة عائلتي ذات الأصول السوريّة، والعراقيّة، والفلسطينيّة، وعن تأثير هذه المنافي الموروثة على حياتي اليوم بعيداً عن سوريا، وعن أصدقائي، وأفراد عائلتي المُشتّتين في مختلف أنحاء العالم. منحتني حكايتي الشخصيّة جاهزيّةً لاستقبال الحكايات التي أُترجمها، للتفاعل معها، والتأثر بها. وأعتقد أنّ المسافة منحتي إدراكاً آخرَ، رؤية شموليّة لكارثةٍ متوارثةٍ ومُتشعّبة الأطراف جغرافيّاً وتاريخيّاً، لا يمكن عزل جزءٍ منها عن سلسلة من الأحداث التي لم تنتهِ بعد، وربّما لنْ تنتهِي. لم أعش يوماً في العراق (بلد والدي)، ولم أعرف فلسطين كما لم تعرفها أمّي ذات الأم السوريّة والأب الفلسطينيّ، وفقدت سوريا بعدما انزلق الحراك الشعبيّ نحو حربٍ متعدّدة الأطراف أدَّت إلى هجرة وتهجير الملايين. منذ بدأت العمل كمُترجمةٍ في دوائر اللّجوء في فرنسا، فهمت ما حدث فعلاً في سوريا، وأنا بعيدة عنها، أعدت التواصل مع العراق بشتّى أطيافه، وبتاريخ حروبه ونزاعاته الطويلة والدامية، أدركت معنى العَيش تحت الاحتلال في فلسطين، ومعنى أن تكون عديم الجنسيّة. وأهمّ شيء، استوعبت أنّني لست وحيدةً في مأساتي الشخصيّة والتاريخيّة، وأنّ هذه المأساة ليست عربيّةً فحسب، فما سمعته من زملائي المترجمين الأفارقة، والأفغان، والإيرانيّين، والأتراك، والكوبيّين… مطابقٌ إلى حدٍّ كبيرٍ لما أعرفه عن نفسي، وعن أصدقائي، وأفراد عائلتي. تقول إيتيل عدنان في نصّها الذي يحمل عنوان “السفر، الحرب، المنفى”: “ليس المنفى الامتياز الأكثر حزناً لعددٍ من الأفراد القلائل، فقد أصبح مرادفاً للحالة البشريّة، ولكنْ مع اختلافٍ بسيط: بعضنا يلتهمه هذا المرض بطريقةٍ واضحةٍ ونهائيّةٍ، بينما لا يُدرك الآخرون ما يُعانون منه بالفعل. نحن -معاصري هذا الزمن- جميعاً قريبون جدّاً من بعضنا، لكنّ قلّة قليلة تُشاركنا هذه المعرفة”.6ADNAN, Etel, Voyage, Guerre, Exil [« Voyage, War, Exile », in Al-’Arabiyya, vol. 28, 1995, p. 5-16], trad. de l’anglais par Patrice Cotensin, Paris, Etel Adnan & L’Echoppe, 2020, p. 43.
تعيدني مسألة المعرفة إلى المسرح، إلى دور المسرح لدى الإغريق كفضاءٍ للمصالحة مع فضاء المدينة، وكما سبق أن ذكرت، فالدخول إلى دوائر اللّجوء بالدراماتورجيا الخاصّة بها يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ الدخول إلى المسرح كفضاء مُشاهدةٍ وتحوُّل. أنا شخصيّاً، قادني عملي كمُترجمةٍ مع طالبي اللّجوء إلى اكتساب معرفةٍ ووعيٍ أعمق بالعالم وبنفسي، حتّى إنّه قد تراودني رغبة في استخدام كلمة “تطهير” – catharsis- عند الحديث عن هذا العالم، ولكنْ هناك سؤالٌ أخلاقيٌّ يُلِّح عليّ أيضاً: إلى أيّ مدى يحقّ لنا استخدام مآسي الآخرين لتجاوز مآسينا الشخصيّة؟ ربّما جميعنا يستخدم مأساة آخر ما ليُهوِّن على نفسه صعوباته الشخصيّة، ولكنْ منذ قابلت هؤلاء الناجين، لم يعودوا بالنسبة إليّ مجرّد أرقامٍ وصورٍ بعيدة، باتت تراودني تساؤلاتٌ أخلاقيّةٌ وفكريّةٌ حول إعداد هذه الشهادات فنيّاً، وإعطائها طابعاً جماليّاً قد يوَلِّد لذّة مُشاهدة لدى مُتلقّيها. أعرف أنّها تساؤلاتٌ شائكةٌ تشغل المفكّرين، والفلاسفة، والفنّانين على نحوٍ خاصٍّ منذ الحرب العالميّة الثانية، وأنّ تجربتي وموقعي المتواضعَين لا يمكنهما الإجابة عنها. ما أستطيع أن أقوله هو: إنّ هذه التجربة المتواضعة وضعتني في مواجهة واقع يتخطّى الخيال، وفرضت عليّ إعادة النظر في واقعي الشخصيّ، ومعنى الهامش كما أعيشه وأختبره في حياتي اليوميّة. بالفعل، قد يكون كلّ هذا الكلام مسألة وجهة نظر: من أين نحكي، ومع من نحكي؟ خاصّة أنّ في واقعي اليوم سُكَّان الهامش هُم الأغلبيّة.
- 1بلاسم، حسن، معرض الجثث (٢٠١٥)، منشورات المتوسط، ميلانو، ٢٠١٧، ط٢، ص ١١.
- 2تتضمن اللهجات المشرقية: سوريا، لبنان، فلسطين، العراق، الأردن، بلدان الخليج العربي، مصر، اليمن…
- 3موظف الحماية: هو الشخص الذي يُجري مقابلة تقديم طلب اللجوء ويدرس الطلب قبل أن تأخذ إدارة الحماية قراراً فيه، وقاضي الحماية: هو الشخص الذي يحكم في حال طَعن مُقدم طلب الحماية القرار الذي أخذه مكتب الحماية بحقه وهناك سببان للطعن: نوع الحماية، أو الرفض. الحماية نوعان: الحماية الدولية التي تُمنَح في حالة اللجوء السياسي، أو الإنساني بناءً على مخاوف شخصية ومُدتها عشر سنوات تُجدّد أوتوماتيكياً وهي التي تَمنَح صفة “لاجئ”، والحماية المؤقتة التي تُمنح بسبب تردي الأوضاع الأمنية في بلد طالب الحماية ومُدتها عادةً أربع سنوات، وقد لا تُجدّد في حال عدّتْ السُلطات في بلد اللجوء أن الوضع أصبح آمناً ويُمكن أن يعود الشخص المَحمي إلى بلده. انظر: https://www.unhcr.org/ar/4be7cc27201.html
- 4انظر “المسرح داخل مسرح” في: إلياس، ماري وقصاب حسن، حنان، المعجم المسرحي، مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ١٩٩٧، ص ٤٣٥.
- 5قصير، سمير، تأملات في شقاء العرب (٢٠٠٤)، تر: جان هاشم، مر: هيثم الأمين، دار النهار للنشر، بيروت، ٢٠٠٥، ص ٢٠.
- 6ADNAN, Etel, Voyage, Guerre, Exil [« Voyage, War, Exile », in Al-’Arabiyya, vol. 28, 1995, p. 5-16], trad. de l’anglais par Patrice Cotensin, Paris, Etel Adnan & L’Echoppe, 2020, p. 43.