حُب
عن ماذا ستحكي؟
عن تجربةٍ نادرة.
ما هي التجربة النادرة؟
أن تدرك المعنى.
كيف تدرك المعنى؟
أدرك المعنى بالقلب.
يوميّات حفرة
مع بدايات عام 2012 كنت قد بدأت رحلة تبلّد الأحاسيس، كنت أراقب بقعاً تنتشر في أنحاء روحي، كلّ شعور ينطفئ يخلّف ندبةً، أراقب الندوب بهدوءٍ وسكينةٍ، مع قليلٍ من الدهشة، الدهشة الآتية من أنّني لم أتوقّع يوماً أن أكون قادراً على هذا الكمّ من البلادة في الأحاسيس. فسّرت كلّ ما يحدث على أنّه التطوّر الطبيعيّ لإنسانٍ سوريٍّ عربيٍّ، اعتقدَ في بداية 2011 أنّ التغيير ممكنٌ. مع انتشار الندوب في الروح، صارت الحياة أسهل، وبات واضحاً أنّني في طريقي إلى أن أكون إنساناً بلا مشاعر، هكذا اعتقدت قبل أن أقابل صفاء ابنة الثلاثة عشر عاماً، وأسمع القصّة التي كتبتها، والتي كان عنوانها: “يوميّات حفرة”.
2013 ، لبنان، صيدا، الورشة الأولى من سلسلة ورشات “كيت، كيت، كيت”.
خرجت من سورية إلى لبنان في منتصف عام 2013، لم أحمل معي سوى حقيبة ملابس، لم أعتقد أنّني بحاجةٍ إلى أن أستأجر بيتاً بعقدٍ طويل الأمد، لم أغيّر رقم هاتفي السوريّ، لم أودّع أصدقائي، تعاملت مع بيروت كسائح في إقامةٍ مؤقّتةٍ، قريباً جدّاً سأعود، وستكون سورية بوجهٍ آخر. كانت الأخبار القادمة من هناك تحاصرني بسؤال: ما معنى إقامة مؤقّتة؟ إلى متى؟
في نهاية 2013 كنت قد أدركت أنّني باقٍ في لبنان، وأنّه لا عودة قريبة إلى دمشق، كان وحش الكآبة يطلّ برأسه ملوّحاً لي أينما ذهبت، في غرفتي، في البارات، والمسارح، وأمام سيخ شاورما بربر، أو على الكورنيش مقابل صخرة الانتحار، أو في مزيان، أو مطعم تاء مربوطة، قضيت ما يقارب العام أحاول الهرب منه، لكنّني وجدته في كلّ مكان، ماذا إذنْ؟ لا بدّ من فعل، ما الذي أستطيع فعله؟ إنّها الكتابة مرّةً أُخرى. كلّ سوريٍّ اليوم أينما وُجد لديه ما يقوله، وهو بحاجةٍ إلى أن يقوله، وأنا أؤمن بالكتابة، لطالما احتجت إليها، وهي لم تخذلني قطّ.. ” كيت كيت كيت” سلسلة ورشات كتابة القصّة الشخصيّة للاجئين السوريّين في لبنان. استطعت تأمين الدعم الماديّ اللازم لانطلاق المشروع، وبدأت.
وكانت الورشة الأولى في صيدا. انطلقت الورشة مع ما يقارب العشرين مشاركة، كنّ جميعاً مشاركات كحال معظم الورشات التي نفّذتها في لبنان، وغالباً ما كان السبب أنّ الرجال يعملون، ولا وقت لديهم للكتابة.
إحدى المشاركات في صيدا لم يُسمح لها بالمشاركة إلّا اذا اصطحبت أختها الصغيرة معها، فلم أمانع الأمر، على الرغم من أنّ الحدّ الأدنى لعمر المشارك 15 سنة، والأخت الصغيرة عمرها 13، كان اسمها صفا، بسبب رغبة الأخت الكبرى بالمشاركة، وبالتأكيد إضافةً إلى ابتسامة صفا، قبلت بوجودها على الفور، كنت أحرص على أن يمرّ اليوم الأوّل بخفّة: لعب، تمارين، تعارف، تمارين كتابة، وتحدّثنا كثيراً، تحدّثنا عن أهميّة أن نكتب حكايتنا، أن نحكيها للآخرين، أن نكتشفها من جديد في عيون من يسمعها، وأن نفهمها؛ لأنّنا جميعاً بحاجةٍ إلى أن نفهم ما حدث. كان الجميع ينصت باهتمامٍ، ويعطي رأيه بجديّةٍ وتبنٍّ لما يقول، وحْدها صفا، كانت تجد في كلّ ما نقوله مادةً مثيرةً للضحك، لم تتوقّف عن الضحك، والغريب أنّنا جميعاً قبلنا ضحكها، لا بل أحببناه أيضاً.
لم تعتمد الورشات جنساً أدبيّاً معيّناً، يمكن القول: إنّ التركيز كان موجّهاً على نحوٍ أكبر على تقنيّات سرد القصص: (الحبكة، الصراع، الشخصيّة، اللّغة، الحوار، الحدث، التشويق)، وبالطبع فالحديث عن هذه التقنيّات كان يأخذ شكله الأبسط بما يتناسب مع خبرات المشاركين.
توزّع اليوم خلال الورشة على ثلاث فترات: فترة للحديث عن هذه التقنيّات وتمارين الكتابة المرتبطة بها، وفترة لكتابة القصّة الشخصيّة، وفترة لقراءة ما كُتب ونقاشه، وربّما كانت الفترة الثالثة هي الأكثر غنى وحيويّة، لكنّها كانت أيضاً الاكثر حساسيّة؛ فالقصص التي يكتبها المشاركون هي قصصهم الشخصيّة، الحقيقيّة، المؤلمة غالباً، والتي احتوت دائماً على قدرٍ كبيرٍ من الأسئلة، وما يتبعها من إجاباتٍ، وشروحاتٍ، وتعليقات. كان لا بدّ لي من التعاطي مع هذه الفترة بحذرٍ عالٍ، وبأكبر قدرٍ ممكنٍ من الحساسيّة، كان لا بدّ من الاشتغال على بناء بيئةٍ من الثقة والتضامن تسمح للجميع بأن يقول ما لديه بدون خشيةٍ من التقييم، أو الانتقاص من قيمة التجربة، ولضمان أنْ يسير النقاش بالاتّجاه الصحيح والمفيد اعتقدت أنّني بحاجةٍ إلى وضع قواعد صارمة تنظّم مداخلات المشاركين للتعليق على القصص التي يسمعونها، وبهدف استثمار هذه القواعد لصالح الورشة، وجعلها أكثر سلاسةً وقبولاً لدى المشاركين، فقد عملت على إعطائها شكلاً فنيّاً، وهنا كان لتقنيّات الكتابة المسرحيّة دورها، فآليّات التفكير الدراماتورجيّ ساعدت المشاركين على خلق مسافةٍ بينهم وبين القصّة التي يسردونها، وإن كانت قصصهم الشخصيّة، إضافةً إلى مهارة استنباط الأسئلة الأكثر حساسيّة، والأكثر مفصليّة إذا ما تعاطينا مع القصّة الشخصيّة كمادّةٍ دراميّةٍ، وغالباً ما تتجاوز أهميّة هذا النوع من الأسئلة محتوى، أو نوعيّة السؤال نفسه إلى محاولات الإجابة عن السؤال التي تقود إلى فهمٍ مختلفٍ للنصّ، أو قراءته من وجهة نظرٍ مختلفة.
بسرعةٍ مرّت الأيّام، وجاء اليوم الخامس الأخير، وما أذكره من هذه الأيّام كان شعوراً فريداً، ربّما كان توصيفه مستحيلاً، كان شيئاً ما يشبه أن تدرك معنى ما تقوم به، وهذا أمرٌ نادر الحدوث.
جاءت اللّحظة التي سنقرأ فيها النسخ النهائيّة من القصص، وبدأت الجلسة بصمتٍ مهيبٍ بعد أن قلت: من يريد أن يبدأ بالقراءة؟ صمتٌ طويلٌ، كنت قد توقّعت أن لا يسير الأمر بسهولةٍ، على الرغم من أنّ معظم المشاركات كنّ قد قرأن نسخاً سابقةً من قصصهنّ في الأيّام الماضية، وكنت قد حضّرت لموقفٍ كهذا مجموعةً من الأفكار التي هدفت إلى تشجيع المشاركات على القراءة، قلتها كلّها، واخترعت أفكاراً جديدة. لكنْ بلا جدوى! أتفهّم رهبة الموقف بالنسبة إليهنّ، كما تفهّمت رهبة الساعات الأخيرة في الورشة، وحقيقة أنّنا لن نلتقي بعدها، كنت على وشك الاستسلام، وقبول حقيقة أنّ أحداً لن يقرأ علينا قصّته، قبل أن تنبري صفا، وتصرخ ضاحكةً: أنا سأقرأ! قلت على الفور: عظيم! فلْنسمع قصّة صفا.
” يوميّات حفرة”
الدنيا عيد، والفرحة تعمّ أنحاء المنزل، الجوّ جميل، وأبي وأمّي خارج المنزل، وبيت عمّي فرحين لأنّ الدنيا عيد، وأنا وإخوتي الكبار ذاهبون إلى النوم. كانت أختي الصغيرة تقول: تخيّلوا لو قصفوا قريتنا اليوم، اليوم! قفلنا لها: لا تقولي هكذا، لا تخافي، لن يقصفوها. بعدها انقطع التيّار الكهربائيّ، فبدأ الخوف يحلّ علينا، وبدأت القذائف تتراكم علينا، من (هنا وهناك)، فبدأنا بالصراخ، ولم نستطع أن نفعل شيئا، تربّطت أيدينا وأرجلنا، وبدأت أمّي تنادي: (غدير… غدير!). عندما سمعنا أمّي تنادي شعرنا بالأمان؛ لأنّه لن ينقذنا من هذا الموقف إلّا أمّي وأبي، فقالت لها غدير: أرجوكِ يا أمّي أن تنقذينا! وصلت أمّي مع أبي.
وعندما بدأنا نجري إلى الملجأ، وقع أخي خالد في الحفرة، وأبي كان خلفه، وأختي في حضن أبي. قال له أبي: الله يخليلي ايّاك يا ابني لأنّه لو ما وقعت بالحفرة كنت وقعت أنا وأختك. كان منظراً مضحكاً، بعد أخي أتت جارتنا نسرين وزوجها الذي يكون ابن خالة أمّي، فوقعت نسرين في الحفرة هي وابنتها، كان المنظر مضحكاً بدلاً من البكاء. عندما وصلنا إلى الملجأ، وجدنا كلّ الأقرباء، هناك خوف يتخلّله جوٌّ من الضحك، الخوف لأنّها المرّة الأولى التي تُقصف فيها قريتنا، والضحك بسبب مناظر الأشخاص الذين يتساقطون في الحفرة، كان الجوّ ضحكاً بدل البكاء، وبعد ذلك أتى الصباح، وبدأنا بالضحك، وكأنّه لم يحدث شيء، ومهما حدث لن ينتصر الظلم علينا، إن شاء الله تعالى، والله يخلي كل أيّامنا ضحك.
والله يخلي كل أيّامنا ضحك… كانت صفا تنفجر ضاحكةً بين جملةٍ وأُخرى، وشيئاً فشيئاً، بدأنا جميعاً نشاركها الضحك، حتّى بدا ضحكنا جميعاً جزءاً من القصّة. انتهت صفا من سرد القصّة، فصفّقنا لها، ونحن نضحك. انتهى الضحك والتصفيق، وساد صمتٌ يسمح لنا بالتفكير بقصّة صفا، بقصّتنا، ونحن نضحك بسبب قصّة صفا. أدركت على الفور خطورة هذا الصمت، وقلت: من التالي؟ أراد الكلّ أن يقرأ بعد صفا، وهذا ما حدث.
تفادياً لنوبة الحزن التي هدّدت قلبي، وأنا أودّع المشاركات، وأرجو لهنّ حياةً أفضل، عدت إلى مكان إقامتي مع سندويشة شاورما كبيرة، أكلتها وأعددت إبريق شاي، ثمّ أشعلت التلفاز. كنت أحاول جاهداً ألّا أفكّر لا بالقصص، ولا بصفا، ولا بالحفرة أمام الملجأ. على شاشة التلفاز أمامي ظهر باراك أوباما، كان يقول: إنّه سيطلب إجراء تصويتٍ في الكونجرس على أيّ إجراءٍ عسكريٍّ ضدّ نظام الأسد.
في الوقت ذاته كان صوت صفا في رأسي، وهي تشرح عمّا حدث في تلك القرية ليلتها. حسّينا كأنّه درعا كلياتها وقعت بالحفرة، وضحكت.
دراما
لماذا أحبّ أن أتذكّر دائماً ورشات كتابة القصّة الشخصيّة؟
لأنّني عندما أتذكّرها أتذكّر مشاعر لم تعد موجودةً اليوم.
لماذا لم تعد موجودةً اليوم؟
لا أعرف!
ربّما لأنّني توقّفت عن تنفيذ هذه الورشات.
ربّما لأنّ دافع حكاية القصّة الشخصيّة اليوم صار أقلّ إلحاحاً.
هل هو كذلك حقّاً؟
لا أعرف!
هل لديك أنت هذا الدافع؟
حكاية القصّة الشخصيّة: قبل سنواتٍ كان الدافع أكبر، وهذا ما فعلته، كانت حكايتي الشخصيّة مادّةً أوليّةً لكتابتي للمسرح. اليوم، أشعر أنّني أريد الابتعاد عن القصّة الشخصيّة.
لماذا؟
ربّما لأنّ الأمر لا يزال مؤلماً.
ألم تبنِ مشروعك على حقيقة أنّ كتابة القصّة الشخصيّة فعلٌ من شأنه أن يخفّف من الألم، هل كنت مخطئاً؟
ما زلت على إيماني، لكنْ لنقُل: إنّني تعبت من الوجود داخل الحكاية، وربّما لم تعد حكايتي الشخصيّة تحتوي على أحداثٍ مثيرةٍ للاهتمام. هذا في الحقيقة ما أردته. منذ أن انتقلت إلى ألمانيا بدأت بإعداد ما يسمّى بـِ”مرحلة الاستقرار”. اللّجوء في ألمانيا، أعطاني إمكانيّة الاستقرار في مدينةٍ ما، وما إنْ بدأ مشروع الاستقرار هذا، وبدون تخطيطٍ، بدأت أعمل جاهداً على تفريغ حياتي من الدراما؛ لا مزيد من الصراعات، والحبكات، ولحظات الذروة، والنهايات المفتوحة، هذا يكفي!
ورشة شاتيلا
في مطلع عام 2014، في مخيّم شاتيلا، كان الوضع مختلفاً بعض الشيء، تمّت الورشة بالتعاون مع مركز بسمة وزيتونة، وكان معظم المشاركين من العاملين في المركز، أو المتطوّعين، أو من الشباب الذين يشاركون عادةً في نشاطات المركز، ولم يكن هناك داع لبناء فريقٍ، إنّهم يعرفون بعضهم جيّداً، إنّهم فريقٌ، وأنا بالنسبة إليهم العنصر الدخيل على الفريق، لقد اعتادوا على الورشات، والنشاطات، والمدرّبين القادمين من خارج المخيّم، ويبدو أنّ خبراتهم في هذا المجال لم تكن دائماً جيّدةً، ويبدو أنّني أمام تحدٍّ جديدٍ من نوعه، وهو أن أكون قادراً على الانضمام إلى الفريق، وليس أن أخلق الفريق، ولكي أنضمّ إلى الفريق عليّ أن أقبل بشروطه، أن أكون مرناً منفتحاً، وربّما مشاغباً أحياناً، وكان من الواضح ألّا مكان للقواعد والقوانين في هذه المجموعة، لامجال للحيل التي عادةً ما ينتهجها المدرّبون للسيطرة على مجموعةٍ ما وتوجيهها، ويبدو أنّهم اختبروها كلّها مع مدرّبين سابقين. لا أنكر أنّ بعض الشكّ انتابني مع بداية الورشة؛ الشكّ في أنّ المشاركين سيكتبون، سيناقشون، سيتعاطون مع الأمر بجديّة، ومع ذلك لم يكن أمامي إلّا المحاولة، وأن أذهب معهم بدل أن أقنعهم بالذهاب معي، فكانت البداية مربكةً بعض الشيء، بعض الفوضى، بعض الضجيج، بعض الضحك والسخرية المتبادلة من الجميع، ومع هذا لم يكن أمامي إلّا أن أتابع البرنامج الذي وضعته مسبقاً، والذي يقتضي أن يكتب المشارك نسخةً أولى من حكايته الشخصيّة، ويقرأها للمجموعة في نهاية اليوم الأوّل، أذكر أنّني كنت مستنفراً مع بداية هذه الفقرة، ففي الوقت الذي كنت أتوقّع فيه أن تحتوي القصص على ما هو حسّاس، أو حميميّ، أو مؤلم، كنت قلقاً من ألّا يتعاطى بعض أفراد المجموعة مع هذه الخصوصيّة بالاحترام اللازم.
مع بداية قراءة القصص، شيءٌ ما تغيّر في الغرفة، شيءٌ ما تغيّر في عيون المشاركين، الكلّ ينصت، الكلّ يفهم، الكلّ يحترم، وأنا أكثر استرخاءً، وأشعر أنّني أنتمي إلى هذه المجموعة بفوضاها وحساسيّتها، لقد أحببتهم جميعاً.
حكى خالد عن صديقه القطّ في مخيّم اليرموك، لقد تعرّف إليه في أثناء الحصار، وقاسمه طعامه سرّاً. لم يجرؤ أن يعلن عن فعلته، أن يشارك طعامه مع قطٍّ في زمن الحصار.
حكت أمل عن أمّها التي تعرّفت إليها من جديد بعد أن فقدت ذاكرتها إثر تجربة اختطاف. أحبّتها كامرأةٍ، وكانت سعيدةً بأنّ هذه المرأة تحديداً هي أمّها.
حكى معن عن الفرق بين سطح غرفته التوتياء في مخيّم شاتيلا، وبين سطح الزنزانة التي اعتُقل فيها في حلب.
إنّها المشكلة ذاتها التي واجهتني في صيدا، تواجهني هنا في شاتيلا، التفاعل العاطفيّ مع محتوى القصص والرواة. تعلّمت في ورشةٍ شاركت بها من قبل استخدامات الفنّ في الدعم النفسيّ، وأذكر أنّ أكثر ما جرى التركيز عليه ضرورة الحذر بالنسبة إلى الميسّر في هذا النوع من الورشات، والحذر في إظهار التعاطف والتأثر، فإنّ هذا الحذر سيسْهم في بناء علاقةٍ مفيدةٍ وفعّالةٍ مع صاحب القصّة، وسيساعده على إعادة اكتشاف حكايته وفهمها، والحذر هنا يعني التركيز على الاحترام، والفهم، والتقدير، والتعاطف الذي لا يأخذ شكل الشفقة.
كيف ألتزم بهذا الحذر، وأنا أسمع قصصهم؟
مرّةً واحدةً عرفت أنّني لن أستطيع منع نفسي من البكاء، فغادرت الغرفة بحجّة اتّصالٍ طارئ.
كان ذلك عندما بدأت سوسن بقراءة قصّتها، عندما كانت في حلب مع بداية الثورة. كانت تشارك في المظاهرات، وتبحث عن عمل. اكتشفت لدى دخول المكتب أنّ الشاغر وهميٌّ، وأنّ صاحب المكتب الفخم يريد عشيقةً مقابل أيّ معاشٍ تطلبه. تروي سوسن الحكاية من خلال الوقوف على لحظةٍ واحدةٍ في هذه المقابلة، لحظة مزجت في رأسها بين رائحة السيجار الذي يدخّنه صاحب المكتب، ورائحة غاز الأعصاب الذي رُمي على المتظاهرين خلال المظاهرات، عندما وصلت سوسن للحظة سرد تفاصيل هذه اللّحظة، تهدّج صوتها، وبدتْ واضحةً مقاومتها للبكاء، فتوقّفت عن القراءة بضع مرّات، وعاودت محاولة متابعة القراءة، حتّى إنّها بلحظةٍ بدأت بالقراءة حرفاً حرفاً كأنّها تهجّئ الكلمة، بذلت كلّ طاقتي لأتماسك، وأقول لسوسن: إنّها تستطيع التوقّف عن القراءة، وأن تذهب لتغسل وجهها، وتشرب، فنظرت إليّ، ومرّ صمتٌ طويلٌ، وبحركةٍ مفاجئةٍ مسحت سوسن الدمعة العالقة في عينيها، وتابعت القراءة بصوتٍ عالٍ وواضح. انتهت من القراءة، صفّقنا لها جميعاً، وحاولنا جميعاً أن نفسّر ابتسامتها في تلك اللّحظة. تظاهرت أنّني تلقّيت اتّصالاً، فأعطيتهم استراحةً قصيرة، ووجدت زاويةً بعيدةً عن الأعين… وبكيت.
الحُب… مرّةً أخرى
لماذا أحبّ أن أتذكّر دائماً ورشات كتابة القصّة الشخصيّة؟
لأنّني أحببت المشاركين.
لماذا؟
لا أعرف! أشتاق إليهم. كان العمل على جعل الورشة بيئةً آمنةً للمشاركين فيها شرطاً أساسيّاً لتنفي الورشة. أعتقد أنّني كنت أحتاج إلى هذه البيئة الآمنة أكثر من المشاركين أنفسهم.
هل تعتقد حقّاً أنّ هذه الورشات تركت أثراً لدى المشاركين فيها؟
نعم.
ما هذا الأثر؟
ربّما اختبار تجربة الكتابة.
ربّما اختبار تجربة مشاركة الحكاية مع الآخرين.
ما الذي يحدث لحكايةٍ بعد أن نحكيها؟
تطير في الهواء، ثمّ تتلاشى.
والذاكرة؟
ترتّب نفسها لاستقبال حكايةٍ جديدة.
ألف خيمةٍ وخيمة
تتالت الورشات في لبنان، في عام 2014 كنت قد بدأت أدرك أنّ العودة إلى دمشق لن تحدث في الغد المنظور، وتزامناً مع هذه القناعة كانت شروط الإقامة في لبنان تزداد صعوبةً، وبدأت حفلات وداع الأصدقاء السوريّين الكثر في لبنان تتحوّل إلى حدثٍ شبه يوميّ.
بدأت في تلك الفترة العمل مع مجموعةٍ من شباب مخيّم المرج في البقاع، كانوا قد أسّسوا فرقةً مسرحيّةً، وكانت الخطّة تقديم عرضٍ مسرحيٍّ تفاعليٍّ. لم تكن بداية المشروع موفّقة؛ فقد تلقّى سكّان المخيّم إنذاراً لإخلاء المخيّم بحجّة أنّه قريبٌ من نقطةٍ عسكريّة. توقّف المشروع وتحوّلنا جميعاً إلى فريق طوارئ للعمل على تأمين أهالي المخيّم، وإيجاد أماكن سكن بديلة. استغرق الأمر بضعة أيّام قبل أن تهدأ العاصفة، وبعد أن تأكّدنا جميعاً أنّ كلّ من جرى ترحيله وجد لنفسه مأوى، عدنا إلى المشروع، لكنْ هذه المرّة بطاقةٍ مختلفة. أيّ مسرحٍ سنقدّم بعد ما حدث؟ اتّفق كلّ أعضاء الفريق على أنّهم يريدون أن يحكوا ما حدث لهم؛ حكاية الرحيل عن المخيم. قرّرنا معاً أن نبدأ من خلال ورشة كتابة، وبدأت الورشة. كتبوا عن المخيّم كأنّه وطن. كتبوا عن الخيمة كأنّها الفردوس. كتبوا عن أرواحهم التي ألفت الوداع، واحترفت البحث عن وطنٍ جديد.
في قلب هذه المعمعة، وجدت نفسي أمام مهمّةٍ شبه مستحيلةٍ؛ كيف لي في قلب كلّ هذا أن أكون منهم ومعهم، وكيف لي أن أساعدهم على كتابة ما حدث، وكيف لي أن أقرّر الصيغة التي سيقدّمون فيها ما حدث على خشبة المسرح أمام الجمهور؟ أستطيع القول: إنّني شعرت بالخوف من تلك المهمّة، وكنت أميل إلى عدم الاستمرار في المشروع، إلّا أنّ أعضاء الفريق جميعاً كانوا واضحين في رغبتهم في خوض التحدّي والمضيّ قدماً في المشروع، ولم يكن أمامي إلّا أن أقبل، وأن أتحمّل مسؤوليّة إدارة التحدّي، التحدّي الذي يتداخل فيه الإنسانيّ بالفنيّ، التحدّي في أن تقدّم القصص التي كُتبت بطريقةٍ تليق بأصحابها، وبهول ما حدث، على الخشبة سنحكي قصّةً حقيقيّةً عن لاجئين يودّعون مخيّمهم القديم، ويتطلّعون إلى المخيّم الجديد، أبطال الحكاية الحقيقيّون سيحكون الحكاية على الخشبة، كيف سنحقّق التواصل مع الجمهور بدون أن يأخذ هذا التواصل شكل الاستعطاف والشفقة؟ لم يكن أمامي إلّا أن أتشارك هذه الأسئلة والمخاوف مع أعضاء الفريق. إنّنا نواجه معاً هذا التحدّي، وعلينا مواجهته كفريق.
منذ أن بدأت تنفيذ ورشات كتابة القصّة الشخصيّة واجهني سؤالٌ تقنيٌّ مرتبطٌ بجوهر هذه الورشات، والهدف منها، وهو: كيف أرتّب أولويّات المشروع: التجربة، أو النتيجة؟ سويّة التجربة وما يختبره المشارك خلال الورشة أم سويّة المنتج الذي سيقدّمه المشارك في نهاية الورشة؟ كان هذا السؤال حاضراً في كلّ الورشات السابقة، إلّا أنّه في ورشة فريق مخيّم المرج كان السؤال أكثر حدّةً ووضوحاً، وفي الوقت ذاته يمكن القول: إنّ العنصرين قد تداخلا إلى حدٍّ كبيرٍ بسبب خصوصيّة التجربة؛ إذْ ارتبطت سويّة التجربة إلى حدٍّ كبيرٍ بسويّة المنتج، وربّما لهذا السبب كان لا بدّ من أن يتشارك كلّ من في الفريق في صناعة القرارات الفنيّة وغير الفنيّة. هل نقدّم عرضاً في نهاية الورشة؟ ماذا سنقدّم في العرض؟ وكيف؟
بعد ما يقارب الشهر من الاشتغال على القصص، وعلى صيغة تقديمها على الخشبة، قدّمنا على خشبة مسرح دوار الشمس عرضاً بعنوان: “ألف خيمة وخيمة”.
إلى اليوم لا أستطيع الجزم بأنّنا حقّقنا الهدف الذي أردناه من العرض، وبأنّنا قدّمنا الحكاية بالشكل الذي يليق بها، لكنّني دائماً عندما أطرح على نفسي هذا التساؤل أستعين باللّحظة التي حيّا فيها المشاركون الجمهور. سعادتهم في هذه اللّحظة ربّما تكون كافيةً لقتل بعض الشكّ.
خاتمة
كيف تدرك المعنى؟
أصدق حتّى الكذب.
كيف تدرك المعنى؟
أهرب من الملل.
أهرب إلى الملل.
وماذا بعد؟
أكتب حكايتي الشخصيّة.
29.05.2013 الساعة السادسة صباحاً على طريق دمشق بيروت.
وقفت السيّارة على الحاجز الأمنيّ الأخير قبل دخول الأراضي اللبنانيّة. بدا رجُل الأمن أكثر شراسةً من سابقيه، خلال السنوات الثلاث الماضية، كنت قد طوّرت مهارةً تساعدني على عبور الحواجز بدون أن يكتشف عناصر الأمن خوفي من الاعتقال. تقنيّة عضّ اللّسان؛ فعندما أعضّ على لساني أبدو مسترخياً وهادئاً، وأطبع على وجهي ابتسامةً باردةً يصعب تفسيرها، أثبتت التجربة نجاحها عبر سلسلةٍ من الحواجز الأمنيّة الخطرة.
ما إن طلب الرجُل هويّتي حتّى عضضت على لساني، وابتسمت، لكنّ الرجُل فجأةً حدّق بي، وأطال التحديق، ثمّ اقترب:
- ليش مبتسم؟
- مبسوط.
عاود التحديق إلى أن انتهى العنصر الآخر من التفتيش، فأعاد إليّ الهويّة.
- أنت بتلعب بوكر؟
- لا
- لازم تلعب بوكر.
انطلقت السيّارة، غادرت سورية للمرّة الأخيرة، كنت أشعر براحةٍ كبيرةٍ أنّني لن أعضّ على لساني بعد اليوم.
24.03.2022 في غرفتي في برلين.
على وشك إنجاز الشهادة التي عنونتها بـ: كيت، كيت، كيت. أشعر أنّني مشتاقٌ إلى بيروت، وإلى ورشات الكتابة، أشعر بالندم لأنّني أجلس في غرفتي في يومٍ مشمسٍ على غير العادة في برلين، أفكّر بأنّني أرغب في التوقّف عن الكتابة هذا اليوم، أفكّر بأنّني أرغب في التوقّف عن الكتابة نهائيّاً. غداً سأفكّر بالأمر جديّاً.