انطلق هذا المشروع من رغبةٍ أساسيّةٍ في الخروج من أطر الممكن والمحتمل، وهو أمرٌ يبدو ساذجاً على مستويَيْن: الأوّل هو أنّ الممكن والمحتمل في أيّ سياقٍ هما أفضل ما يكن تقديمه، والمستوى الآخر هو أنّه إذا كان السياق سوريّاً، فإنّ هذا الأمر يبدو ضرباً من العبث؛ إذْ ما معنى الممكن في بلدٍ يتفتّت على نحوٍ لحظيٍّ، وما المحتمل أمام الثقب الأسْود الذي الْتهَم حاضر ومستقبل هذا البلد، ويمحو ماضيه يوميّاً؟
لكنّ الرغبة استمرّت، والسؤال الأساس الذي ظلّ يشغل بالي: ما الحدود والأطر التي يمكن من خلالها الكتابة عن سوريا بدون أن تكون هي الموضوع، إنّما الموضوعة؟ أو كيف يمكن تجاوز العلاقة مع المباشر والطارئ للوصول إلى المُلحّ والراهن؟ في سؤالي هذا كنت أعي أنّ محنة العالم في سوريا هي محنة لم تُفهَمْ أبعادها بعْد، وكلّ ما يمكن أن يقترحه محرّك بحث غوغل عن سوريا انطلاقاً من كتابات صادق جلال العظم، ووصولاً إلى حضورها ضمن عناوين بعض الأفلام الإباحيّة، لا يفي بحجم وفداحة ما حدث في هذا البلد الذي ارتطم بالخراب، والذي يمكن المُحاجّة بأنّه التمثيل الأكثر تعقيداً للكارثة بالمعنى المعاصر.
يغري هذا “البلد” الذي اختبر الخراب، والفاجعة، والتنكيل، والتخلّي، بأن نقرأه بوصفه الصورة الأكثر تعميماً للكارثة بأشكالها ما بعد الدراميّة، وما بعد الحداثيّة؛ حيث تبدو فجاجة طرح الحاضر، وتعقيدات الأسئلة الأخلاقيّة، مصيراً لا يمكن الفرار منه أمام أيّ راغبٍ في العمل على سوريا، ولكنْ على مستوى أبعد، تبدو هذه الأسئلة، وكما أُلزِمَ بها السياق السوريّ، مدخلاً للتفكير في أيّ أفكارٍ، أو أعمالٍ، لا تريد أن تتجاهل المصائر المعقّدة والأخلاقيّة لما يمكن أن يكون عليه العالم.
في هذه الصورة نستعين بفنون الأداء، كونها إحدى الوسائط الفنيّة التي أنتجت سرداً قديماً عن الكارثة، وكانت التراجيديا أحد مكوّنات كنهها ووجودها، نستعير من فنون الأداء هشاشتها وآنيّتها، ونتأمّل في الطرائق التي واجهت بها طاعون كوفيد-19 بالكثير من التشكيك والقلق، وأخذت مخاطرة العودة من البداية، ومن هنا فإنّ حضور فنون الأداء في هذا المشروع اختبارٌ لمواجهة التبعثر عقب تعذّر التواصل واللّقاء، ولأنّنا نجد أنّ مستقبل هذا الوسيط فني أمام استحقاقاتٍ فريدةٍ من نوعها تأتي هذه المرّة في صميم الظاهرة الأدائيّة عقب قرونٍ واجهت فيها هذه الفنون استحقاقات بنيويّة، وصمدت ضدّها.
إنّ أحد المكاسب التي حفظتها لنا سوريا خلال السنوات التي خلت هي قدرتها على إنتاج تغييرٍ جذريٍّ ونوعيٍّ في معنى الهامش، ضمن امتدادها العضويّ لمعنى التغيير في المنطقة العربيّة، هذا الهامش الذي انتظم داخل وخارج سوريا، وتعزّز على نحوٍ عضويٍّ وتلقائيٍّ، اصطفى مزيجاً فريداً من التناقضات والتنوّعات، وامتلأ بالتضحيات، وإنّ كلّ هذا الغنى هو مساحة توجِب البحث، والدراسة، والتعلّم، والاحتفال، وهذا الهامش لا يزال في بداية زخمه وإنتاجه المعرفيّ، وإنّنا في بحثه ودراسته نحاول أن نفكّك تعقيد العالم، وإخفاقه الممتدّ.
في هذا المشروع، نأمل أن نستمرّ في تقديم مجموعةٍ من الأعمال التي تتراوح بين نصوصٍ، وتكليفاتٍ مسرحيّةٍ أصليّةٍ، وشهاداتٍ فنيّةٍ، وتجاربَ شخصيّةٍ، وأعمالٍ متعدّدة الوسائط، وأبحاثٍ أكاديميّة، تشكّل في مجموعها إطاراً مفاهيميّاً عن احتمال المزاوجة بين الهجرة وبين فنون الأداء، في هذه المنصّة نتشارك جهلنا، وقلقنا، وحيرتنا، أمام تعقيدات الحاضر والمستقبل، كما نتشارك ضحالة إلمامنا بكيف يمكن الحديث عن سوريا- الكارثة بعد 11 عاماً من سرقة ثورتها، وتفتّت نسيجها المجتمعيّ، وسرقة حقّ البشريّة في وجودها. ننظر إلى صورة سوريا في هذا العالم، فيبدو المشهد مرعباً، والقاع بعيداً، والأمل كبيراً. في هذا المشروع، تعاونّا مع أصدقاء وصديقاتٍ من أجيالٍ وسياقاتٍ مختلفةٍ، وكلٌّ منهم/ن ضمن خبراته ومعارفه اختار أن يكون على المحكّ مع طرح الأسئلة التي يطرحها هذا المشروع، ولا نفترض أنّ هذا الطرح هو طرحٌ انطلق من سوريا دائماً، إلّا أنّه تلاقى بالضرورة معها، ومن هنا نجد أنّ هذه الأعمال تتحدّث عن سوريا كما تتحدّث عن سياقاتٍ محليّةٍ أُخرى، وهي مقاربةٌ نأمل أن نعتمدها لسنواتنا القادمة.
ندعو كلّ الراغبين والراغبات في استكشاف الأسئلة التي ذكرناها أعلاه، أو جزءٍ منها، إلى قراءة، ونشر، ومشاركة هذه الأعمال، كما أنّ هذه الأعمال متاحةٌ للاستخدام تحت رخصة الإبداع المشاعيّ 4,0 التي تخوّل المهتمّين نسخ المحتوى، وتوزيعه، ونقله، وتعديله، بدون مقابل، شرط أن تنسب العمل إلى صاحبه بطريقةٍ مناسبةٍ (بما في ذلك ذكر اسم المعدّ، وعنوان العمل، إذا انطبقت الحالة)، وتوفير رابط الترخيص، وبيان إذا ما أُجريت أيّة تعديلاتٍ على العمل لكلّ من يرغب في إنتاج أعمالٍ وإنتاجاتٍ أدائيّةٍ تتطرّق إلى سؤال المهجر.